حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,12 يناير, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 1646

«بندورة الحيَّة» و«رباعيات الفردوس» لمخلد بركات

«بندورة الحيَّة» و«رباعيات الفردوس» لمخلد بركات

«بندورة الحيَّة» و«رباعيات الفردوس» لمخلد بركات

12-01-2025 08:21 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - «بندورة الحية» للروائي والقاص مخلد بركات هي روايةٌ قصيرةٌ (نوفيلا) رعوية فلاحية صدرت عام 2010 عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع، وتُطلُّ هذه الرواية عبر نوافذ المعلم الشامي لطفي على حزن القرى والفلاحين وعذاباتهم وحكاياتهم المعجونة بالخوف والأمل والترقب والحذر.

يقوم هيكل النوفيلا على الأستاذ الشامي لطفي وتلاميذه والذي يفتح لهم نوافذ على تاريخهم وحكاياتهم وجذورها وأصولها مجسِّداً ذلك الصراع التاريخي بين الخير والشر عبر حكاية حمدان الحمد وزوجته هلالة وابنته الأسطورية صبحا التي اختفت في حقول القمح وذابت لتُشكِّل أسطورةً وحكايةً يحتاجها الناس في بؤسهم اليومي الذي يبحثون به عن خلاص، وعبر فلاح الحمدان الحمد أيضاً الذي ولد كبشارةٍ لحمدان وهلالة وهما في ارذل العمر، وفي هذه يتناص.

ويوظف مخلد بركات قصة سيدنا إبراهيم الخليل وسارة في مغازي ومرامي روايته، فلاح المتفوق والمنعزل في عليته يبحث عن معادلةٍ رياضيةٍ تُعيد إليه أخته صبحا التي اختفت في حقول القمحِ كأنها صورةٌ من صورِ عناة الكنعانية مع قلب الأسطورة لتكون عناة هي التي تختفي وبعل (فلاح) هو الذي يبحث عنها، يرافق ذلك حديث القرى وأمثالها ولغتها وتراويدها وأمثالها وتراتيلها وفُحشها وعرافيها ودجاليها عبر شخصية سلامة العراف الشرير وابنه نعمان الأعمى الذي يقود بسكليت ويُطلُّ من نافذة الأستاذ لطفي ليتهكم عليه وعلى تلاميذه، وسلامة العراف شكَّل في الرواية العدو اللدود لفلاح وأبيه الأسطوري حمدان الحمد وكأنه صورةٌ من صور «موت» الكنعاني ولكن بصورةٍ هزليةٍ برزت في حواره مع زوجته ومحاولته الفاشلة لقتل فلاح الحمدان حيث يتبين أنه قتل الديك الوحيد في خُمِّه وبذلك تعرض لسخرية زوجته المريرة.

الرواية في هيكلها لها محمولاتٌ أسطوريةٌ تستعيد أهل الكهف وتستعيد ايل وعناة وبعل وموت، وتستعيد خمبابا الوحش في أسطورة جلجامش وأنكيدو، وتستعيد حكايا الخصب والمطر وتمائمه والبحث عن الينابيع وعن الخصب والتجدد.

تنتهي الرواية بسيطرة الأفعى السوداء الضخمة -خمبابا- على علية فلاح الحمدان الذي كان وجهه عند ولادته كحبة البندورة كما قالت الداية أم مرزوق، وبهجرة وعودة الأستاذ لطفي المعلم لبلاده في الشام، انها النهاية المؤقتة للحكاية التي حملت حزنَ القرى ومعاناةَ الناسِ وانتظارهم للخصب والخلاص.

يبقى تأويل ما قاله الأستاذ لطفي حول مغزى الحكاية وأسرارها المرتبطة بهيكل وبنية واسم الرواية وهو تأويلٌ يحمل أكثر من معنى : أولها انتصار خمبابا الوحش على انكيدو وجلجامش وهو التأويل المباشر، والتأويل الثاني متعلق بالنبتة العجيبة - بندورة الحية - والتي من سياق الرواية يمكن فهم أنها النخبة المثقفة الواعية والتي كانت هي غذاء الوحش والأفعى السوداء –خمبابا- وكأن الرواية تُحمِّل النخبة مسؤولية تغذية هذا الوحش من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى تُشير إلى أن قتل هذه النُخب في مجتمعاتنا هي التي أعطت خمبابا هذا الانتصار المؤقت، وربما هناك تأويلاتٌ وقراءاتٌ أخرى.
لغةُ الرواية كانت لغةً عاليةً مُطعَّمة بمفردات الريف والبادية وأهازيجها وأمثالها ولغتها اليومية التي لم تكن مقحمةً بل جاءت في مكانها في سردية هذه الرواية، أما الراوي فكان كما تتطلبه بنية الرواية راوياً عليماً –المعلم لطفي- ويُسنده بالخفاءِ رواةٌ كٌـــثُـــرٌ امتلأت بهم حكايا هذا العمل الروائي الناضج.

رواية « بندورة الحية « روايةٌ واقعيةٌ تأخذ من الأسطورة هيكلاً لها، لذلك هي مليئةٌ بتراث ريفنا وحكاياه بإطار يستعيد تراث ثقافتنا الأسطورية والدينية ويوظفها في إطارٍ واقعيٍّ قابلٍ للتأويل.

أما «رباعيات الفردوس» وهي مجموعة قصص قصيرة متتالية ومترابطة ويفضي بعضها إلى بعض فهناك وشائج قُربى قوية بينها وبين رواية «بندورة الحية»، وكأنها كانت استمراراً سردياً لبندورة الحية واستعادةً وقراءةً لتوطن وتحوُّل الأسطورة بصيغٍ مختلفةٍ محتفظةً بجوهرها الأسطوري القديم وصراعاته التي ما زالت قائمة حتى الآن بوهجها الذي يلمع تحت الرماد اليومي الطاغي.

في رباعيات الفردوس والصادرة عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع عام 2024 يستحضر مخلد بركات تراث بلادنا ومنطقتنا الأسطوري ويُدخل في تركيبها واستعادتها الواقع المعاصر للريف وتحدياته وحياة الناس فيه وفي حركة شخصيات الأساطير التي حضرت معاً والتي أقلمها مخلد بركات مع شخصياتٍ واقعيةٍ تعيش بيننا، ويُعيد مخلد تفكيك وتركيب هذه الأساطير وتتداخل شخصياتها وتتنافر وتتحوَّل وفقاً لرؤية الراوي، حضر في هذه المتوالية القصصية المترابطة: إيل وعناة وعشتار وناقة صالح واتنوبشتايم (نوح) وامرأته والطوفان وجوزيف (النبي يوسف)، وحضر بروميثيوس هذا العاشق والحالم والذي يمزجه مخلد بركات بشخصيةٍ واحدة مع سيزيف حامل الصخرة عقاباً له على تزويده البشرَ بالنار، حضر آدم وحضرت حواء وحضر يوسف والجب وحضر جلجامش عبر شخصية البدوي ذي النياق السبع والذي يضم ناقة صالح لنياقه ويهاجر، ومفاجأة الشخصيات كانت شخصية الدواج البهلوان ذو بقعة الدم جهة القلب على قميصه والذي يظهر بعد حواره مع الخياط الأحدب وخازن صندوق الأسرار أنه انكيدو الذي لم يمت كما في الأسطورة ولكن خنزيراً برياً (كأنه أدونيس في الأسطورة الفينيقيّة) اصابه جهة القلب وأخفاه جلجامش بين الحشائش ومضى –وهنا نقرأ إعادة تركيب وإزاحة للأسطورة عن منطوقها السائد-، وها هو انكيدو يتخفى بالبهلوان والدواج بحثاً عن جلجامش عبر التاريخ، ولكنه كما في بندورة الحية يتمظهر بشكلٍ آخر ويلبس لباساً آخرَ ويحمل بقجته وينزل تجاه بحيرة الملح بحثاً عن صديقه جلجامش الذي تخلَّى عنه وما زال.

في قصة قتل الناقة واتهام البهلوان –انكيدو– بقتلها (كأن الناقة أصبحت صورةً للوحش خمبابا في تحولاته وصوره) وإحيائها مرةً أخرى وضم الراعي الثري ذي السلطة الغامضة لها مع نياقه السبع ومغادرته مع نياقه قراءةٌ تُشير لمعرفة الراعي الثري –جلجامش– لأنكيدو البهلوان وتبرئته كصورةٍ من صور التكفير عن ذنبه بتركه –أي أنكيدو- جريحاً مغطىً بالحشائش وعودته -أي جلجامش/ السلطة– لنفس الذنب بصورةٍ جديدةٍ بتركه أنكيدو –الناس البسطاء- مُطارداً وجريحا ويبحث عن رفيقه الذي تركه وحيداً حزيناً دوَّاجاً مليئاً بالأسرار والأحزان، الخياط الأحدب كان هو التاريخ والراوي العميق للحكاية والوحيد الذي كان يستطيع أن يضيف أو يحذف من الأسطورة، لذلك قتل الناقة رمزياً وأحرق صندوق الأسرار هو وأنكيدو معاً ومن رماده انبعث خمبابا من جديد، ومن رماد قبر الناقة الذي أحرقه البدوي الثري (جلجامش/ السلطة) انبعثت الناقة من جديد ليضمها جلجامش لنياقه.. الحكاية تتناسل والخياط الأحدب –التاريخ- هو الوحيد القادر على إزاحتها وتغيير مجرياتها.

عندما يُقرأ الواقع كأسطورة أو تُعاد الأسطورة بصيغتها المعاصرة وتجلياتها المعاصرة فإنها تتفكك وتتشكل من جديد ولكن وفقاً لقوانينها التي تتحكم حتى بالراوي الذي يعيد تشكيلها من مفردات واقعه المعاصر، في هذه المتتالية القصصية تمتزج شخصيات الديانات السماوية بالأساطير اليونانية والكنعانية والسومرية والفينيقة والثمودية في معزوفةٍ واحدةٍ متعددة الأصوات لتدلَّ فيما تدلُّ عليه أن أساطيرنا لم تكن خرافاتٍ بل كانت قصصَ حياةٍ ومعاناةٍ وتحدياتٍ تتكرر عبر الأجيال وتتقاطع شخصياتها وتأخذ بعضُها ملامحَ بعضِها في متتالية تاريخيةٍ خالدةٍ، كأنها قصيدةُ شِعرٍ ملحميٍّ تتمظهر في حكايانا وحكاياتنا وشِعرنا وأهازيجنا وموروثاتنا وتحدياتنا المتناسلة والمتكررة منذ آلاف السنين.

نقرأ هذا الحوار الدَّال على هذا الامتزاج للأسطورة والأديان بين النبي يوسف وبين أنكيدو ص81 من رباعيات الفردوس:
«اسمعني يا جوزيف، وأخذ يرفع عن بطنه: هل ترى هذا الأثر القديم، إنه نابُ خنزيرٍ انغرس في بطني، سجَّاني رفيقي جلجامش بجانب البحيرة تلك، قريباً من أكمةِ حلفاء، غطَّاني بأعوادٍ وأعشابٍ، قدَّر أنني سأتحلل بعد أيام، ولن أظلَّ عُرضةً لوحوشِ البراري، ومضى».

أبارك للمبدع مخلد بركات هذين العملين الإبداعيين العميقين المتصلين معاً واللذين يحتاج تفكيكهما وفهمهما لأكثر من قراءةٍ متأنية.











طباعة
  • المشاهدات: 1646
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
12-01-2025 08:21 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم