14-01-2025 08:48 AM
بقلم : تمارا خزوز
شبكات التواصل لا تعمل في الفراغ، بل هي انعكاس حقيقي للواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه. وهي ليست مجرد أدوات تقنية، بل محركات لتشكيل الرأي العام وتأطير القضايا المجتمعية، بشكل يفوق الأثر الذي تملكه أي وسيلة إعلامية أخرى، بما فيها تلك التابعة للدولة.
اليوم، وعلى هذه الشبكات، تتوارى زعامات إلكترونية خلف الشاشات، بعضها يعتمد في خطابه على إثارة العواطف، وتأجيج المشاعر، وبث خطاب الكراهية. وهذه ظاهرة عالمية مستفحلة، لكنها في الأردن تحمل بعض الخصوصية، حيث تعتمد بعض هذه الحسابات في قوة محتواها وسرعة انتشارها وازدياد عدد متابعيها على معلومات مسرّبة من داخل أجهزة الدولة وأروقة المكاتب الحكومية، ومحاضر الاجتماعات، والكتب المصنفة بأنها سرية. قد يكون مصدر ذلك موظفين غاضبين، أو من يظنون أن ما يقومون به هو شكل من أشكال مكافحة الفساد. ولكنه، في حقيقة الأمر، تقويض لمؤسسات الدولة، وانتهاك لقدسية الوظيفة العامة، وتعريض الأمن المجتمعي للخطر. فمكافحة الفساد في كل دول العالم تُعالج بسرية بهدف التوثيق، والاستقصاء، وجمع الأدلة، وتقديمها للقضاء والجهات المختصة. بعكس ما يحدث حاليًا، حيث إن المستفيد الحقيقي من هذا التأجيج هي الحسابات الإلكترونية التي تتضخم شعبيتها وقوتها على حساب أمن الدولة واستقرارها.
يشير الباحث التونسي جوهر الجمّوسي في كتابه «الافتراضي والثورة - مكانة الإنترنت في نشأة مجتمع مدني عربي» لهذه الظاهرة التي تغير فيها مفهوم الزعامة في المجتمعات العربية فيقول «فقد تلاشى مفهوم الزعيم القوي الذي يعتمد على حضوره وتأثيره المباشر، واستُبدل بمفهوم جديد قائم على التواصل الشبكي. القيادة أصبحت تستند إلى تأثير غير مرئي عبر الإنترنت، يعتمد على الفكر والمشاعر بدلًا من الحضور الفيزيائي».
الإشكالية في نموذج هذه الزعامات الجديدة أنها لم، ولن، تُفضي إلى تحول سياسي واجتماعي حقيقي. لأنها ببساطة تعجز عن إعادة صياغة مفاهيم العدالة الاجتماعية وتداول السلطة وإدارة الدولة، لعدم تملكها لأي جذور أو أبعاد معرفية. كما أنها لا تسهم في تعزيز نفوذ القوى المدنية داخل المجتمع، ولا تساعد على إنتاج كيانات اجتماعية جديدة قادرة على التآلف لبناء مجتمع مدني يتمتع بسلطة التعبير، يدعم العملية الديمقراطية، ويمكّن المواطنين من المساهمة الفاعلة في صناعة القرار. على العكس، هذه الزعامات تكرّس الهويات الفردية الفرعية – سواء كانت إقليمية، عائلية، عقائدية، أو دينية – مما يدفع الأفراد إلى الاحتماء بجماعاتهم الخاصة. ونتيجة لذلك، يتحول خطابهم إلى خطاب كراهية وتحريض، وهو إشكالية بحد ذاتها، خاصة في اللحظات الحرجة التي تمر بها الأمة، وهي لحظات تتطلب التماسك والترابط الاجتماعي لحماية الدولة في مواجهة المخاطر الخارجية.
الأخطر هو قدرة هذه الشبكات على تأطير العلاقات الإلكترونية بين مستخدميها، وتحويلها، في كثير من الأحيان، إلى علاقات اجتماعية حقيقية. وعندما تغلب على هذه الشبكات أنماط التأثير العاطفية المعتمدة على أساليب الإثارة وبث الإشاعات وخطاب الكراهية، فإنها تُصبح وصفة جاهزة لمشاكل سياسية واجتماعية أعمق وأخطر. في مثل هذه الحالات، تتحول الشبكات إلى أداة لاستقطاب الجماهير وتجييشها ضد مؤسسات الدولة، بل ومكونات المجتمع نفسه.
والسؤال المطروح هنا: هل تستطيع الدولة تحمل الكلف الباهظة لهذه الظاهرة إذا ما استفحلت وامتد أثرها؟ وماذا تحتاج الدولة من مؤشرات أخرى لإعلان حالة الاستنفار لمواجهة هذه الآفة؟ المواجهة تتطلب تدخلًا عاجلًا وإستراتيجيات شاملة، تعتمد على سياسات عامة تعزز البنى التحتية الاجتماعية كحواضن لمحاربة خطاب الكراهية بشكل علمي ومدروس، بعيدًا عن النهج الأمني، وتمنح القوى المدنية أدوات للتأثير الإيجابي في الفضاء العام. وإلا، فإن المجتمع الأردني كاملًا سيكون مجددًا رهنًا لتجاذبات «البندورة» وزعامات الظل.
الغد
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-01-2025 08:48 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |