حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,18 يناير, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4138

وداعاً ديفيد لينش .. صانع العجائب السينمائية

وداعاً ديفيد لينش .. صانع العجائب السينمائية

وداعاً ديفيد لينش ..  صانع العجائب السينمائية

18-01-2025 08:11 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - برحيل ديفيد لينش (1946- 2025) تفقد السينما واحداً من مبدعيها الكبار الذين تركوا بصمات لا تُمحى على الفن والثقافة السينمائية على مدار العقود الخمسة الماضية.

مثل هيتشكوك، وفلليني، وبيرجمان، ويوسف شاهين في السينما العربية، تحوَّل اسم "لينش" إلى صفة تشير إلى أسلوب أفلامه، وإلى الأفلام الأخرى التي تحمل بصمة وتأثير هذا الأسلوب.

شعور عام باليُتم ينتاب محبي السينما والثقافة الرفيعة في العالم كله من خبر رحيل ديفيد لينش قبل عيد ميلاده التاسع والسبعين بأيامٍ قليلة، وعبارات من نوعية "السينما ماتت"، و"جيل العباقرة انتهى"، و"رحيل آخر العظماء"، كلها تعكس المكانة الكبيرة التي يحتلها اسم الرجل، والتي تشكَّلت عبر مسيرة قليلة الإنتاج (10 أفلام طويلة فقط، ومسلسل من ثلاثة أجزاء، وعدد من الأفلام القصيرة)، ولكنها شديدة الخصوصية؛ مسيرة لم تكن سهلة بالمرة، ولم تُبْن في يوم وليلة، بل استغرق صنعها وتقديرها عشرات السنين.

في تصوّري، لم تلق أفلام ديفيد لينش ما تستحقه من تقدير حتى الآن، ومثل معظم الفنانين الكبار فإن الزمن وحده كفيل برد اعتبارهم، ووضعهم في المكانة التي يستحقونها، مثلما فعلت أكاديمية علوم وفنون السينما عندما حاولت أن تعوض لينش عن تجاهلها لأعماله بمنحه الأوسكار الفخري في 2020.

بداية غرائبية


منذ فيلمه الطويل الأول Eraserhead (1977)، أظهر الشاب ديفيد لينش أنه قادم من عالم آخر، ليقدم سينما من عالم آخر، غير التي يصنعها بقية البشر. الغريب أن الفيلم لم يحقق نجاحاً يُذكَر في شباك التذاكر، لكن سرعان ما التقطته دار عرض تهتم بالتجارب المختلفة، وخصَّصت له عروضاً ليلية (باعتباره فيلم رعب)، جذب اهتمام أصحاب الذائقة الخاصة، ومنهم المنتج والمخرج البريطاني ميل بروكس، الذي كلَّف لينش بصنع فيلم بعنوان The Elephant Man (1980)، يدور حول قصة حقيقية لرجل وُلد مشوّهاً، اشتراه صاحب سيرك ليحوّله إلى أعجوبة يتفرج عليها الناس في نهاية القرن التاسع عشر.

ربما ما جذب بروكس إلى لينش أن Eraserhead كان يدور أيضاً حول طفل وُلد مشوّهاً، ولكن على عكس Eraserhead حقق The Elephant Man نجاحاً هائلاً على المستويين التجاري والنقدي، ورُشِّح لـ 8 جوائز أوسكار، وضعت اسم ديفيد لينش على خريطة السينما العالمية.

وشخصياً، شاهدت الفيلم، لأول مرة، ضمن عروض "نادي سينما القاهرة"، من بين روائع عالمية أخرى مثل Wild Strawberry لبيرجمان، و 8½ لفلليني، والفيلم الأخير يعد من أكثر الأعمال تأثيراً على ديفيد لينش. ومن الطريف أن كلاً من لينش وفلليني وُلدا في اليوم نفسه (20 يناير)، مع فارق 26 سنة بينهما. وقد سعى لينش إلى التعرف على فلليني، وزاره أكثر من مرة، كان آخرها قبيل وفاة الأخير في 1993.

The Elephant Man كان مختلفاً بالمرة عن Eraserhead، فهو فيلم روائي تقليدي، يركز على القصة والمشاعر الإنسانية، ويخلو من الألاعيب السوريالية التي ميَّزت Erasehead، قام ببطولته اثنان من كبار الممثلين البريطانيين، هما جون هارت، وأنتوني هوبكنز، الشاب آنذاك، بجانب آن كروفت في دور صغير، ووُزِّع الفيلم على نطاق واسع، وحقق الشهرة لديفيد لينش. ولكن سرعان ما عاد لينش إلى عالمه الغرائبي السوريالي الأثير بواحد من أكثر أفلامه فشلاً (تجارياً) وإثارة للجدل والخلاف بين النقاد ومحبي السينما، وهو Dune (1984).

فشل آخر يعقبه نجاح


اتسم الفيلم المأخوذ عن رواية فرانك هربرت (التي تحولت إلى سلسلة أفلام من إخراج دوني فيلينيوف مؤخراً) بصوره المبهرة، وسرده الصعب، وإيقاعه الخاص بشكل فاق احتمال الجمهور العادي آنذاك، رغم أن الفيلم راح يكتسب المعجبين والمريدين المتيّمين بمرور السنوات.

ما بين صنع أعمال صعبة الاستساغة على شاكلة Eraserhead وDune، وأعمال سهلة الهضم، وسلسة نسبياً، تراوحت مسيرة ديفيد لينش على مدار العقود التالية. وعقب Dune مباشرة صنع واحداً من أنجح وأجمل أفلامه وهو Blue Velvet (1986) الذي شارك في بطولته إيزابيلا روسيليني، ودينيس هوبر، وممثله المفضل كايل ماكلاكان، الذي صار "الأنا الثانية" alter ego لديفيد لينش منذ أن شارك في Dune.

رسخ Blue Velvet مكانة ديفيد لينش بالرغم من الاستقبال المتناقض الذي حظي به الفيلم بين محبيه وكارهيه، وكما حدث مع كل أعمال لينش، فقد أنصفه الزمن وأصبح واحداً من أشهر وأحب الأعمال للأجيال الجديدة من مشاهدين ونقاد.

ولكن إذا كان Blue Velvet مستساغ نسبياً، فقد عاجله لينش بعمل جديد أكثر غرابة وراديكالية وإزعاجاً وإثارة للخلاف، وهو فيلم Wild at Heart (1990) الذي حصل على السعفة الذهبية من مهرجان "كان"، ولكن الكثيرين هاجموا صاحبه، ولجنة التحكيم التي منحته الجائزة، وإلى الآن يظل صادماً حتى بمقاييس اليوم.

سوريالية الجريمة


في كل من Blue Velvet، وWild at Heart دمج ديفيد لينش أنواعاً فنية تجارية مثل الرعب، والتشويق البوليسي، والعصابات، و"فيلم الطريق" داخل الأسلوب السوريالي الذي يعتمد على مفارقة الواقع والسرد الذي يشبه الحلم، والأحداث والصور الخيالية. ونموذجاً لهذه الصور قيام دينيس هوبر ونيكولاس كيج بالغناء بطريقة الـplay back لأغنيتين رومانتيكيتين ناعمتين هما In Dreams، و Love Me Tender لروي أوربيسون وألفيس بريسلي، على التوالي، على خلفية من العنف والجنس والرعب تدور فيها أحداث الفيلمين.

مسلسل سبق عصره


في 1992 دخل ديفيد لينش تجربة جديدة شديدة الجرأة منه، ومن محطة تليفزيون ABC، وهي صناعة مسلسل Twin Peaks الذي أعتُبر على الفور واحداً من أجرأ ما شهدته شاشات التليفزيون، ويمكن أن نقول إنه سبق ومهَّد لعصر المنصات والمسلسلات "السينمائية" التي نراها اليوم، وإلى الآن يعد Twin Peaks واحداً من أفضل المسلسلات في التاريخ. وبعد موسمين من المسلسل، صنع لينش فيلماً بعنوان Twin Peaks: Fire Walk With Me كجزءٍ سابق على أحداث المسلسل، قبل أن يقوم في 2017 بصنع موسم ثالث له، حقق نجاحاً كبيراً، وهو آخر أعمال لينش، باستثناء عدد قليل من الأفلام والتجارب الفنية القليلة التي صنعها خلال السنوات الماضية.

وسيراً على منواله في دمج السوريالي بسينما الجريمة والرعب، صنع ديفيد لينش فيلمه التالي Lost Highway (1997)، الذي عالج فيه موضوعاً سيشغله كثيراً فيما بعد، وهو مسألة الهوية وما وراءها من غيبيات روحية. وهي ثيمة كان قد عالجها بشكل ما في Twin Peaks، وسيعالجها لاحقاً في فيلميه الأخيرين Mullholand Drive وInland Impire.

الإنسانية مجدداً


عقب Lost Highway عاد ديفيد لينش مجدداً إلى جانبه الإنساني البسيط بصنع واحدٍ من أسهل وأعذب أفلامه، وهو Straight Story المأخوذ عن قصة حقيقية لرجل عجوز يقوم برحلة طريق لزيارة أخيه المريض بعد سنوات من الفراق، وهو العمل الوحيد الذي يختلف أسلوبه كلياً عن بقية أعمال لينش.

في العام التالي مباشرة، صنع لينش أجمل وأغرب أفلامه على الإطلاق وهو Mullholand Drive (2001)، الذي جرى اختياره بعد عقدين على صنعه كأفضل فيلم في الألفية الثالثة في الاستطلاع الضخم الذي أجرته محطة BBC منذ خمسة أعوام.

كانت آخر تجارب لينش مع فيلم Inland Impire في 2006، وهو عمل تجريبي رائد مصوَّر بالكاميرات الرقمية، لم يحقق نجاحاً كبيراً، ولم يُعرَض على نطاق واسع، بعده تفرَّغ لينش لتجارب أخرى مثل الفن التشكيلي، والموسيقى والأفلام القصيرة، وعاد من جديد إلى شبابه الأول كمجرِّبٍ يبحث عن ماهية الفن والحياة في قوالب وأشكال غير تقليدية.

خسارة فادحة رحيل فنان كبير ونادر مثل ديفيد لينش، ولكن عزاءنا أنه ترك هذا الإرث العظيم لأجيال عديدة ستتذكر، برعشة الحنين، تلك المتعة الخالدة التي بثتها أفلامه في عقولهم وقلوبهم، والتي ستبقى لأجيال كثيرة قادمة.

 

 








طباعة
  • المشاهدات: 4138
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
18-01-2025 08:11 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم