18-01-2025 10:02 AM
بقلم : د.نشأت العزب
في زحام الخطاب الاقتصادي الذي يسيطر على النقاش العام في الأردن، تبرز المديونية كقضية مركزية تتصدر أولويات السياسات الحكومية، فتُصوَّر المديونية كعائق كبير أمام النمو والتقدم وكثيراً ما تُستخدم كمبرر لفرض ضرائب جديدة أو تقليل الإنفاق على القطاعات الحيوية مثل التعليم، الصحة و مشاريع التنمية، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك، فالمديونية على أهميتها فهي ليست الهدف الأساسي من السياسات الاقتصادية بل وسيلة يُفترض أن تخدم غاية أكبر وهي تحسين حياة الإنسان و رفع جودة المجتمع.
تعد المديونية مشكلة كبيرة عندما يعاني الاقتصاد من الركود أو غياب المشاريع التنموية او عدم وجود مشاريع حقيقية تغذي الاقتصاد الوطني، في هذه الحالة يصبح تقليل الديون أمرًا ضروريًا لاستعادة التوازن المالي، لكن عندما يكون الاقتصاد قادرًا على النمو وحين تُستخدم الديون بشكل استراتيجي لدعم مشاريع إنتاجية وتنموية، فإنها تتحول من عبء إلى أداة للتقدم، فالمثال الصيني هو مثال حي لتأكيد ما سبق، استطاعت الصين رغم الديون الضخمة التي تتحملها أن تستخدم هذه الديون لتحفيز الإنتاج وتوسيع الأسواق مما خلق فائضًا اقتصاديًا هائلًا وأمّن مكانتها كقوة اقتصادية عالمية.
في بلدنا الأردن يبدو أن التركيز المفرط على تقليص المديونية يأتي أحيانًا على حساب القضايا الأكثر أهمية مثل تحسين حياة المواطن، فالمواطن الأردني لم يعد يشعر بجدوى السياسات الاقتصادية عندما تكون النتيجة المزيد من الضرائب، وزيادة تكلفة المعيشة، وتراجع الخدمات الأساسية و البطالة المتزايدة، فالاعتماد على جيب المواطن كحل للأزمات الاقتصادية ليس فقط خيارًا خطيراً، بل أيضاً مؤشر على غياب الرؤية الحقيقية لمستقبل الاقتصاد الأردني، فالضرائب المستمرة تُضعف القوة الشرائية وتزيد من الأعباء النفسية والاجتماعية على المواطنين، مما يؤدي في النهاية إلى تآكل الطبقة الوسطى، وهي المحرك الأساسي لأي اقتصاد قوي ومستدام.
إن الانشغال المفرط بالأرقام الاقتصادية والإصرار على إبراز تحسن الناتج المحلي الإجمالي وتخفيض المديونية دون النظر إلى تأثير ذلك على حياة المواطن يعد نوعًا من الوهم الذي يفصل السياسة الاقتصادية عن الواقع المعيشي للناس، فالمواطن الأردني يراقب عن كثب نتائج هذه السياسات ويجد نفسه غالباً في مواجهة مع غلاء المعيشة وزيادة الضرائب التي لا تواكب أي تحسن ملموس في مستوى خدمات التعليم والصحة أو فرص العمل، إن المواطن هو الحلقة الأساسية التي يجب أن يدور حولها كل التخطيط الاقتصادي، وعندما تُغفل هذه الحقيقة، تصبح الأرقام الاقتصادية مجرد أصداء خاوية تزداد صدى دون أن تحمل معاني ملموسة على أرض الواقع.
ان الحلول الحقيقية تكمن في إعادة هيكلة الأولويات، فالاقتصاد ليس مجموعة أرقام تسعى الحكومات إلى تحسينها لتبدو جيدة على الورق، بل هو منظومة تهدف إلى تحقيق حياة كريمة ومتوازنة للمواطنين، و استمرار حالة التركيز على المديونية كهدف دون استثمارها في مشاريع منتجة لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات و تأجيلها و جعلها تتفاقم بدلًا من حلها ، فالمطلوب اليوم هو تبني نهج اقتصادي جديد يعيد تعريف مفهوم النجاح الاقتصادي و يحدد أسسه ، فالنجاح لا يُقاس بزيادة الناتج المحلي الإجمالي فقط و لا يقاس بتحسين حالة الأرقام على الورق، بل بخلق فرص عمل مستدامة، وتحسين الخدمات العامة، وجعل المواطن شريكًا في التنمية بدلًا من أن يكون ضحية لها، و الحلول تكمن في الاستثمار في مشاريع استراتيجية تخلق فرص عمل وتحفز النمو الاقتصادي المستدام.
إحدى الخطوات الجوهرية لتحقيق ذلك هي تعديل القوانين الاقتصادية لجعل الأردن بيئة جاذبة للاستثمار، فتعد البيروقراطية المعقدة والتشريعات المتضاربة و القوانين الجامدة التي لا تخدم خزينة الدولة بل تزيد من أعبائها من أبرز المعوقات التي تواجه المستثمرين، فعلى الحكومة تبسيط الإجراءات وتوفير مناخ قانوني مرن ومستقر، و فتح الاقتصاد الأردني بشكل اكبر على العالم عندها سيتمكن الاقتصاد من اجتذاب رؤوس الأموال واستغلالها بطرق تدعم التنمية الشاملة.
إنه من الضروري أن نتوجه نحو بناء اقتصاد إنتاجي يعتمد على تنمية القطاعات الزراعية والصناعية والسياحية، مع التركيز على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تُعتبر العمود الفقري لأي اقتصاد ناجح، كما أن هذا النهج سيسهم في تعزيز مكانة الأردن الإقليمية والعالمية، خصوصًا في ظل التحولات الاقتصادية و السياسية العالمية التي ستحدد ملامح العقود القادمة.
ان الوضع الاقتصادي الحالي يجعلنا نعيد التفكير ملياً بوضع مسار اقتصادي حقيقي و جريء لتصحيح حالات التخبط الحكومي الذي يكمن باتخاذ قرارات و سن قوانين دون دراية حقيقية بأثرها على الاقتصاد و المجتمع و دون الأخذ بالحسبان اثرها الحقيقي في ظل الظروف التي يعيشها العالم اليوم، فلا يمكننا في الأردن اليوم أن نستمر في الاعتماد على الضرائب كحل أساسي للأزمات، فهذا الخيار مهما بدا سريعًا ومريحًا فهو يمثل خطراً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل و الحل البديل و الأمثل هو تغير طريقة قرأتنا لمشاكلنا الاقتصادية و تغير طريقة حلنا لها و جعل الأولوية هي رفع جودة الحالة الاقتصادية للفرد و المجتمع اولاً.
في الحديث عن الاستثمار و الاقتصاد لا يمكننا إلا ان نشكر الجهود الكبيرة التي يبذلها جلالة الملك عبد الله الثاني في كافة المحافل الدولية لجلب الاستثمار وتعزيز مكانة الأردن الإقليمية والعالمية، فقد بذل جلالته مساعي حثيثة في تحفيز الاقتصادات الكبرى على النظر إلى الأردن كوجهة مثالية للاستثمار، موجهًا رسائل واضحة بضرورة تسهيل بيئة الأعمال وتقديم التسهيلات للمستثمرين، لكن و رغم هذه الجهود الدؤوبة يبقى أن التحديات الداخلية التي تواجه الاقتصاد الأردني تتطلب أيضًا تغييرات جذرية على المستوى المحلي، فالإصلاحات القانونية والهيكلية هي المفتاح لتحقيق رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني في تحويل الأردن إلى بيئة اقتصادية مستدامة ومزدهرة، فالمساعي الملكية لا تكتمل إلا إذا تزامنت مع إرادة سياسية واقتصادية داخلية لتطوير البيئة القانونية والبنية التحتية التي تشجع الاستثمار وتخفف من أعباء المواطن.
في الختام، ان الاقتصاد في حالات مشابهه يصبح بحاجة إلى رؤية شاملة تعيد التوازن بين الإنسان والأرقام، فتحسين المؤشرات الاقتصادية يبدو امراً عبثياً إذا لم ينعكس على حياة المواطنين، فالمديونية ليست المعضلة الأولى، والضرائب ليست الحل الوحيد، ان الإصلاح الحقيقي يبدأ حين تُدرك الحكومة أن الاقتصاد ليس غاية، بل وسيلة لتحقيق رفاهية المواطن وضمان مستقبله، كما أنه من الضروري أن نعي أن العالم اليوم يعيش في مفترق طرق حيث تتشكل ملامح المئة عام القادمة بشكل سريع، ونحن بحاجة إلى اتخاذ قرارات اقتصادية جريئة تعزز من قدرتنا على المنافسة وتمنح المواطن شعورًا حقيقيًا بالأمل في المستقبل، ففي المحصلة الأرقام تُصبح فارغة دون وجود واقع حقيقي يشعر فيه المواطن بتحسن ملموس في حياته.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-01-2025 10:02 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |