18-01-2025 10:09 AM
يوسف القحافي - "وأما الجهل فلا يخفى ما يوقع صاحبه في المهالك"، هكذا وصف ابن خلدون الجهل في مقدمته الخالدة، فلا تخفى مهالك الجهل ونقص المعرفة والإدراك، أكبرها اندثار دول واصغرها استدلال خاطئ، فما أحوجنا اليوم لمعالجة اسباب الجهل بدرجاته، وإعادة بناء اسباب المعرفة، في زمنٍ يُختصر جهد سنين تحصيل المعرفة فيه ببضع نقرات، وكما لكل شيء فوائد فلكل شيء علّة، وعلّة زمننا تشتت مصادر المعرفة لوفرتها، فأضحت الايجابية هي السلبية وباتت المعرفة الصحيحة ككنز واضحٍ للعيان لا يُعرف له مفتاحه المطلوب، فأين المفتاح؟
إن اللغة أحد وجهي الفكر، فإن لم تكن لنا لغة تامة صحيحة فلن يكون لنا فكر تام صحيح، فالمعرفة هي ضالة العامة، وامتياز الخاصة، وضالتنا من اللغاتِ اليومَ ما هي إلا لغة التواصل والتعبير، فكيف يمكن ان تكون المطالبة صحيحة إن لم تستند الى فكرٍ صحيح، وكيف تكون استدلالاتنا مقبولة إن لم تستند لجدار من الاحترام لحدود معارف النفس أولًا، ولحقوق الناس ثانيًا، فالناس اليوم يُبدون آرائهم بأية كيفيةٍ كانت فيما يختص بشؤون المجتمع الكبير على تعدد خصوصياتها والى ابعد من ذلك من المسائل ذات الدرجة العليا من الأهمية الاجتماعية في الدولة، فمعلومٌ انه لا شخص من ذوي الاطباع المستقيمة والأذواق السليمة يجسُر على معارضة الطبيب فيما يختص بعلمه، والفلكيّ فيما له مساس بالكسوف والخسوف، فأولئك الناس لا يدركون ان تحدياتنا اليوم بتعقيد اسبابها الكامنة وراءها؛ أصعب ادراكًا من ادراك الكيمياء والفلك وان العلم بأكمله اذا أفني في مدرسة قواعد تلك الموضوعات لا يتسنى الكلام عليها مع الوثوق من سلامة الوقوع في الزلل، فمن لم يتصدّ يومًا لدراسة مبادئ الاقتصاد يدعي انه على وقوف تام بقواعده ومبادئه، لمجرد ثبوت حقه في التعبير! بالرغم من انها مواضيع مرنة بتقلباتها وتقلبات اساليب التعامل معها لأحكام تبدل الظروف من ظروف سياسية واقتصادية مختلفة، تدلي بظلالها على الحياة الاجتماعية للشعوب، اضافة الى خلفيتها التاريخية ما دامت شؤونًا وطنية.
وعلينا أن نعترف معًا بأنه قد حان الوقت للتعرف على الامراض التي نعانيها، وأن نكشف حقيقة المرض الذي اصابنا قبل أن نبادر الى وصفات العلاج التي لا فائدة منها وتكاد أن تكون مخدرات تزيد المرض مرضًا، فالإنسان القاصر عن تكييف أمراض مجتمعه غير جدير بأن يكون طبيبًا يصف الأدوية، وكم ابتلينا في تاريخنا بمن يتصدر للعلاج وهو ابعد الناس عن الصحة.
صفرًا للمعرفة، هو اعظم ما نحتاج تحقيقه قبل إنجاز أي مسعىً آخر مهما بلغت اهميته، ولا نجد تعريفًا لهذا الصفر في السياق المجتمعي ابسط من التالي: "الحد الأدنى من الوعي والفهم الذي ينبغي أن يمتلكه الفرد ليكون مؤهلًا للمشاركة وتقديم الحلول"، فما هو معيار تحديد الحد الأدنى لهذا الصفر في كل شأن؟ وما هو حل سمتنا الغالبة بامتلاكنا جرأة في التعبير والانتقاد حتى ولو لم نمتلك المعرفة المطلوبة؟
فمن لا يمتلك ابسط العناوين حول قواعد قضية عامة تؤرق البال والخاطر لا يتصور ابدًا ان يحق له المطالبة بحلها، فمن الجليّ استنتاجه بأن الفهم الصحيح لقضايانا، والواقعية في تقديم الحلول، وإدراك العواقب للنقاش البيزنطيّ الدائم، والتثقيف الذاتي، هو صفر المعرفة!
جذور المرض.
لا أعتقد فيما سلف اننا نظلم مجتمعنا بهذا التصنيف المعرفي الهزيل الذي صبغ سواده الاعظم، فلنا ان نرى كل يومًا منشوراتٍ هنا وهناك عن الاصلاح وعوائق انجازه، والتأشير على مكامن الخلل الاسطورة في كل شيء يظهر للسطح من أحداثٍ وأخبار، فمجرد ما أن نرى مسؤولٌ يتحدث نرى التعليقات السلبية تنهال من تحته، وعلة عدم التصديق الدائم لما يُقال ويخطط له من اصلاحٍ وبناء، هذه المقابلة السلبية المليئة بالانتقاد والخالية من الحلول الممكنة او حتى المنطقية جعلت جسر التواصل مهجورًا، وتعاظم هجره عندما لم نرى ردة فعل مواتية من تأسيس ثقافي واعادة اعتبار لأصول النقاش والتعبير من قبل الطرف الآخر، فقط لتجنب ما قد يصدر عنه من صرخات ومطالبة شعبية بأن يُعذر الناس لما هالوه من تحديات وأصاعيب.
ولكننا لن نظلم الناس عندما نقول ان هذا المرض المنتشر من نظرية للمؤامرة في كل شأن، سببه الاحتقان الشعبي الشديد والمستمر من تحديات الحياة وتوريثهم مسؤولية حل مصائب فسادٍ حلّ في البلاد وانتشر، والذي قد فاقم حقًا من فجوة الثقة التي لم نعد نؤمن فعلًا بإمكانية سدّها مرة اخرى، اضافة الى صعوبة الظروف المحيطة بنا في منطقة منحوسة تعاني من حالة طوارئ دائمة، هذا كله كان سبب حالة حرمانٍ نسبيّ تباينت به اهداف الفرد وتطلعاته مع امكانية تحقيقها وتوافر الموارد اللازمة، فلا نلوم من بنفسه تعب وهمّ من المشكلة الكبرى، ولكن اللوم حكمًا على من عانى من المشكلة ولم يجتهد لإيجاد الحل ولم يتعب للاستدلال الصحيح، وعلى من يعتمد على الشعبويات والخطابات الرنانة ويركن للعاطفة بدلًا من ان يركن الى جانب المعرفة والاعتراف بالخبرة لأهلها، فلا يجوز لنا كشعب يُعاني أن ننتشي بالصوت العالي و أن نكون سببًا في تشويه قضايانا العادلة عبر الاستمرار بإطلاق الشائعات الموسمية غير المستندة لأساس، والإصرار على رفض الحوار المحتوي للرأي الآخر، وتوليتنا المصلحة الخاصة قبل العامة منها، فهذا تنصلٌ غير مباشر من مسؤوليتنا في الاصلاح من الداخل للخارج تجاه انفسنا والأجيال اللاحقة.
مارد انقاذ الشعوب هو الشعوب نفسها: البدء من العقول.
على الشعوب ان تضطلع بمسؤوليتها الفكرية تجاه مصيرها، فلم ينقذ العالم الغربي من الدمار الذي حل به بعد حربين عالميتين سوى رَكنها جلّ قدراتها وثرواتها وعقولها بالمقام الأول للبناء وفقط البناء لتتصدر العوالم الأخرى، فقد استثمروا بالعقول وليس بالطبول، ولم يستطع المعسكر الشرقي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بتحقيق بقاءه سوى بقبوله فكرًا بضرورة الانفتاح على العالم الحرّ ومواكبة العصر، بل حتى انه نجح بالحفاظ على خصوصيته أيضًا! فكيف لنا أن نرضى في بلدنا برفض حكم الأمر الواقع بضرورة البدء من العقول، وذلك لا يكون إلا بتغيير نهج الرفض المصاحب لعظيم الانتقاد والشك، فالعقول ينبغي لها المرونة والتكيف، وليس الجمود وانعدم التأقلم.
الحل واضحٌ يبدأ بالتواضع، بقبول الطرف الآخر، والأهم أن نشعر بجهلنا؛ فإن شعور الإنسان بجهله ضربٌ من ضروب المعرفة، ولا سبيل للبدء بالحل إلا بقبول التناقضات التي نعيشها والعمل على تيسيرها بدلًا من إنكارها وبناء الشمّاعات لاستمرارها بمصطلحاتٍ مثل الدولة العميقة، وانتظار العصا السحرية من مسؤولٍ او قائد، او من بئرٍ بتروليٍّ مختبئٍ في الصحراء.
الحفاظ على حرية التعبير قائمة ضرورة واضحة.
في الختام، لا يُقصد ابدًا بحاجتنا لمنع الآراء المسبقة وانتشار الجهل هو السماح بانتهاك حرية اي فردٍ في التعبير عن رأيه والمطالبة بحقه، ذلك لدستورية حق الانسان في حريته في المشاركة في الطرح العام، فحق الواحد منّا محفوظٌ في هذا الصدد وفق كل السبل الممكنة التي يراها مناسبة، طالما كانت تحت مظلة القانون، وإننا إذ نبغض الجهل فإننا نتمنى بناء التزامٍ مجتمعي بتحمل المسؤولية الاخلاقية لما يصدر عنا من تصرفات ومُشاركة، هذا إن كنا صادقين في نيتنا في اللحاق بركب الأُمم، وأن نعلم بأن المشاركة محسوبة، والوقت محسوب لا يؤمن جانبه، وان فرصنا تتباين بتبدل الظروف، فهل سنبقى ساكنينَ الفِكر والفعل منتظرين اللحظة المناسبة؟ وهل مررنا يومًا بظرفٍ مثاليّ حتى؟
والله أعلم وأجلّ.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-01-2025 10:09 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |