22-01-2025 08:14 AM
سرايا - شرفت وسعدت كثيراً بكتابة تقديمٍ لكتاب ثريٍّ هو «قبسات من المأثورات الشعبية في لواء مؤاب» للكاتبة المهندسة الباحثة «ساجدة النوايسة»، الذي يُعد بحق إضافة للمكتبة العربية وللتراث الشعبي خاصة، ولفت نظري كل هذا الثراء والجدية الأكاديمية في البحث العلمي بين طيات الكتاب رغم أن الكاتبة مهندسة، وهذا مما يجعلنا نثني على جهدها المبذول في جمع المادة التراثية التي حرصت عليها أشد الحرص وخوفاً عليها من الاندثار، ولعل هذا كان هدفها الأسمى عند الشروع في جمع وكتابة مادة أكاديمية تراثية تكون شاهدة على تاريخ منطقة مهمة مثل لواء مؤاب.
ولعل اهتمام وشغف الباحثة بهذا المجال الصعب -على غير المتخصصين- يعود إلى عاملين من وجهة نظرنا:
الأول: هو حبها الواضح للأصالة وارتباطها بالجذور وإيمانها بالهوية العربية ذات الخصوصية والثقافة العربية الأردنية ذات الحضارة والأصالة والتاريخ، والتراث الشعبي خاصة هو الوجه الحقيقي لهذه الأصالة وهذا التميز.
والثاني: كما يقول المثل الشعبي «ابن الوز عوام»، «من شابه أباه فما ظلم». أجل ولم لا؟
وهي التي تربت في ربوع بيت أردني أصيل، وترعرعت بين أحضان مكتبة ضخمة ثرية تحوي آلاف الكتب التراثية والنادرة، فهي بنت أبيها الكاتب والمفكر والأديب الباحث الأكاديمي العربي المتخصص وهو الموسوعي نايف النوايسة، والذي شرفت بالتعارف إليه منذ ما يربو على ربع قرن فكان لي بمثابة الأستاذ الذي أتعلم منه وأنهل من علمه ولغته العميقة الفصيحة الراقية وكنت أراني بمثابة التلميذة التي تحبو في محراب أستاذي القدير.
فإذا كانت النظرية التربوية تؤكد أن الإنسان ابن بيئته يتأثر بها ويؤثر فيها، فلا شك أن كاتبتنا وباحثتنا م. ساجدة هي نتاج هذه البيئة العلمية والتراثية والتربوية والدينية التي نشأت فيها فتأثرت بها كل التأثر حتى قامت بهذا الجهد الشاق المضني، وأنا أول من يعلم كيف يبذل باحث التراث الشعبي خاصة كل جهده، بل ويبذل نفسه ووقته وماله في سبيل جمع التراث الشعبي والشفاهي منه خاصة
(اللامادي) من أفواه الإخباريين مع كل التحديات والمعوقات التي تواجهه، فالبحث الميداني ليس هيناً بل يحتاج لنفس تتسلح بالإيمان بما تقدمه قبل الطموح الأدبي الذي تنشده، وتتسلح بالقوة والصبر والعناد الجميل للوصول للغايات الأسمى وهل هناك ما هو أسمى من بحث يؤكد الهُوية القومية، وينقب في سير ومسيرة الأولين، لنفض الغبار عنها وإنقاذها من عوامل الطمس والإزاحة والتعرية التي تقوم بها قوى شرسة معادية تمتلك القوة وكل أساليب السلب لتاريخ وتراث الشعوب وربما سرقته ونسبته إليها بكل جرأة ووقاحة؟
ولا يغيب عن الأذهان ما فعله بني صهيون من سرقة للتراث الفلسطيني ثم التباهي به وكأنهم أهله وأصحابه، فدينهم وديدنهم هو السلب والنهب للأرض والخيرات والتراث معا.
ولننتقل للكتاب، فالحديث وشجون. يقع الكتاب في أربعة فصول وفق منهجية منظمة لباحثة متمكنة تمتلك أدواتها البحثية:
الفصل الأول: «المفردات الشعبية، وأوضحت الباحثة المفردة ومعناها وإرفاق صور لبعض المفردات، مع توضيح المعنى الخاص بالمنطقة الذي قد يختلف في معناه عن منطقة أخرى.
الفصل الثاني: «الكنايات الشعبية، جمعت فيه بعض لطائف التعابير الشعبية ودلالاتها في السياق المروي والدالة على الحالة الشعورية للمتحدث ومن يسمعه.
الفصل الثالث: «الأمثال الشعبية» وهي نماذج لا تُعد مع زخـم المتداول منها في البيئة المؤابية، وأشارت إلى بعض الكتب التي تضمنت حكايات بعض الأمثال التي ذكرتها.
الفصل الرابع: «ما يقال في المواسـم ودورة الزمن والمعتقدات الشعبية» فقدمت نماذج معززة بالصور بما يناسب حجم الكتاب، فهي تحتاج لفريق بحثي لإجراء مسح شامل، مما عزز جهود وزارة الثقافة الأردنية حين أصدرت «مكنز التراث الأردني» وبالتالي هو تعزيز للجهود التي تبذلها مدونة مؤاب الثقافية.
لقد استطاعت الباحثة ساجدة النوايسة أن تأخذ من تراث منطقة مؤاب قبسات تناسب أهداف المدونة ملبية مطلبها الثقافي من حيث التركيز على جوانب التراث الذي يتعاملون به دوماً مثل:
الألفاظ اليومية المتداولة على ألسنة أبناء مؤاب، كما لاحظت أن هناك جذوراً عريقة لهذه الألفاظ في الفصيح من كلام العرب، مثل:(فهق، بزق، دعك، عشم، ريغ، خمع، قمع...إلخ)
وفي دراستها للكنايات الشعبية في مؤاب تقول:... وهي كثيرة وأجزم أن معظـم كلام الناس في مؤاب وغيرها يميل إلى الكناية كمظهر لطيف من مظاهر اللياقة الاجتماعية، فالكناية لفظ يستخدم في غير معناه الأصلي ويقصد بها غيره، مثلما يقال أن فلاناً عينه كريمة أي عوراء، فاستبدل الصفة الذميمة بالصفة المحمودة والجميلة كي لا تجرح مشاعره، ويقال عن السارق «فلان يده طويلة»، وعن عديم الأخلاق والمروءة «عينه زايغة» وللحرص على كرامة الزوجة يقول الزوج: جماعتنا أو الجماعة أو أم فلان، ولا يذكر اسمها أمام صديقه أو جاره...إلخ.
وتشير الباحثة إلى أن للمثل الشعبي حضوره في مجتمع مؤاب وهو كالدرس المستفاد من خبرات السابقين وحكمتهم التي صاغوها في جمل قصيرة، مجهولة النسب وتجري على ألسنتهم في المناسبات المختلفة مثل: «ياما تحت السواهي دواهي» للدلالة على الخبث والمكر والدهاء، و» الولد ولد لو صار قاضي بلد « وهو للدلالة على الرعونة والطيش وعدم التعقل والاتزان الرجولي، و» وجع ساعة ولا كل ساعة»، وهو للحث على الصبر والجلد والاحتمال في مواجهة أمر شديد الوقع على النفس، و» والله ما اتبع الردي لو بنى لي خيام»، وهو ينهى عن مصاحبة الأشرار دون الأخيار خشية أن يتأثر بهم، و»ما بيعرف رطْني إلا ابن بطني» ويضرب للتفاهم بين الأم وطفلها... إلخ.
وتُفرق الباحثة بين المثل الشعبي والحكاية فتشير إلى أن الحكاية: قصة توظف فيها مجموعة من الحيوانات والنباتات وبعض القوى الطبيعية كشخصيات موجودة فيها.
كما أشارت الباحثة إلى بعض ما يقال في المفردات والمعتقدات الشعبية وبعض المواسـم والطب الشعبي والقضاء العشائري، دون التوغل في الأخير لضيق المقام.
وأشارت لمفردات شعبية على سبيل المثال:
- قرط: رمى، أو قطع الشيء بأسنانه، وهناك لعبة شعبية اسمها قرطة.. والقاروط هو الولد الصغير، والقاروطة: منجل صغير لحصد القمح الأخضر حتى يصبح فريكة.
- قْرطة: قرشان ونصف ولونها أبيض.
- القُرقعة: سقاء من جلد الماعز لفصل الزبدة عن اللبن.
- القشيم والقشيمة: شحـم ذنب الذبيحة المقلي
ومما أشارت إليه الباحثة من جميل التراث الشعبي المندثر والذي كان بمثابة توثيق لمواقيت الزراعة وما يتعلق بالمناخ ما نذكر منه:
- المربعانية لا غطاهاِ بدفّي ولا عشاها بكفّي: أي أن البرد الشديد والليل الطويل في مربعانية الشتاء من أثقل الأوقات.
- بين كانونين لا تسافر يا شقي: دلالة على العمل للفقير في الشتوية (للعوز والحاجة).
- شباط ما عليه رباط، أو شباط إن شّبط وان لّبط ريحة الصيف معاه: أي أنه في شهر شباط /فبراير يجتمع البرد والمطر أحياناً مع الحر.
- في آذار الجار ما بطلع ع الجار منَ حْم المشوار، والقشدة بتمسمر ع النار.
- في تموز إِبتغلي الميه في الكوز: واضح دليل الحرارة.
- آب اللهاب :شديد الحرارة.
- أيلول ذيله من الشتا مبلول: أواخره مثل برد الشتاء... إلخ.
وتتساءل الكاتبة حزينة على زمن مضى: أين حلب الغنم؟ والخضيض والزعاميط والتحطيب والوريد وأغاني النساء في كل مفصل من مفاصل هذه اليوميات؟ وأين الحكايات والربابة والهجيني ووداع العرائس والنصة والبيرق العزّام وأين المعيد، وربط هذه اليوميات بالنجوم والأفلاك وظواهر الكون، فلم تعد الأماكن مسكونة بالمرويات المخيفة، وشكل وادي الذيقة مقصدا سياحيا بعد أن غاب مارد الأشقح... إلخ.
حقيقة إن الكتاب ماتع للغاية، وللأسف لا يفسح المجال في هذا المقال القصير لأن أشفي غليلي من الكتابة عنه إنما هي بعض إشارات وصفحات مقتضبة حرصت على ألا تكون مخلة بالعرض، فكتبت بعض نماذج كما هو متبع في عروض الكتب، وألمحت إلى رؤوس موضوعات ولا سبيل إلى الإحاطة بها إلا باقتناء الكتاب والتجوال الماتع بين حدائقه الغناء الثرية بعوالم وزخم الماضي والزمن الجميل.
هذا الزخم التراثي الذي اختفى معظمه برحيل حامليه مما يثير القلق أمام المهتمين بالتراث والموروث الشعبي ومكانته وأصالته التي تعكس الهُوية الثقافية والحضارية التي تعكس علاقة الإنسان بالأرض والزمن ودورة الحياة وأن ما تركه السابقون يؤكد أصالة وقيمة هذا الإنسان في حراكه اليومي فوق تراب وطنه، لذا يُحمَد للكاتبة مدى حرصها على جمع هذه القبسات الذاهبة للاختفاء بغياب حامليها وطغيان الحياة المدنية على ممارساتنا اليومية التي تخلو من تناقل هذه الأجزاء الهامة.
وأخيرا شكرًا للباحثة الجادة، م. ساجدة النوايسة الباحثة عن الأصالة والجذو، وشكر خاص للواء مؤاب ولأستاذنا الجليل نايف النوايسة على ما شرفني به من قراءة هذا التراث الماتع للأردن الشقيق ولما أضافه إلينا من معرفة أصيلة خاصة بموروثنا الشعبي العربي.
*باحث أكاديمي متخصص في الثقافة الشعبية/ مصر
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-01-2025 08:14 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |