27-01-2025 08:30 AM
سرايا - قبل الدخول إلى عوالم مجموعة الأرض المشتعلة لا بد من الوقوف أمام العتبة الرئيسة، فلكل بناء عتبة تقود إلى داخل البيت، وبناء على هذا المعنى فإن عنوان المجموعة هو العتبة الأساسية لطرق النص والدخول في عالمه سواء الفني أو الاجتماعي.
ربما يكون القول الشعبي القديم: «المكتوب بنقرا من عنوانه» الذي أرادته المبدعة سحر إيصاله إلينا عندما اختارت اسم (الأرض المشتعلة) إلى مجموعتها القصصية، فقد جاء العنوان معبِّرا عما في هذه المجموعة من قصص ومضامين. جاء بصيغة المعرفة مكون من صفة وموصوف وهذا يدل على الاتساع والشمولية، فالاشتعال والدمار ينتشر في كل مكان؛ في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن وبغداد وليبيا... وغيرها. أما فيما يخص البناء النحوي، فقد جاءت الأرض خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه والمشتعلة صفة.
المضامين: تمحورت مضامين المجموعة حول المرأة والموت والحرب والفقر، فقد نالت المرأة وقضاياها نصيب الأسد؛ فهي الأم والزوجة العاملة والمطلقة المظلومة والحبيبة الحزينة والأرملة والصبية، فهي المغموسة في جراحات الوطن والتسلط الذكوري، فنالت اهتمام القاصة في 47 قصة من أصل 109 قصص.
ولا تخرج المجموعة عن الموت ورائحة الموت الناتج عن الحروب التي حصدت الأرواح البشرية، فاحتلت 53 قصة تصور بشاعة التقتيل العشوائي وإدانته.
كما أدانت المجموعة الفقر في مجتمعات تزيده الحروب فقرا وظلما، فجاءت في 9 قصص.
أغلب القصص تختلط فيها المضامين مجتمعة فعلى سبيل المثال تقول في قصة أرجوحة «الأرجوحة التي نصبتها الأم لطفلتها في فناء البيت كي تلهو بها، يتأرجح جسدها الصغير ما بين الأعلى والأسفل وسط ضحكاتها الطفولية بعدما غدت وحيدة مع أمها. فاجأها المسلحون الذين وجدو في حبالها مشنقة متينة لتلف حول عنق الأم التي قاومتهم لحظة أرادو اغتصابها فبصقت في وجوههم. وتركوا جسدها يتدلى متأرجحا وعلى وجهها بقايا ابتسامة ساخرة» ص25.
ورغم الحرب والموت، إلا أن الأمل بالخلاص يظل حلما يراود الإنسان، هذا الأمل يتجدد مع بذار الفلاح «الذي خرج مع تباشير الفجر يحمل بذار القمح ليبذره في أرضه التي بقى فيها وحيد وسط جراح وخراب البيوت المهدمة. قبل أن يهاجمه المسلحون ببنادقهم المصوبة إلى رأسه، أمسك بحفنة قمح نثرها في الأرض علها تُنبت سنابل لأطفال قادمين بعد انطفاء شعلة الحرب» (بذار ص55) أنظر قصة (كوز الذرة ص26)
كما أشارت إلى بعض المضامين الاجتماعية مثل: ظاهرة الطلاق والخيانة الزوجية وجرائم الشرف.
وبالنظر في مضمون القصص القصيرة التي ضمتها المجموعة القصصية تتضح بعض السمات الفنية المميزة لأسلوب الكاتبة يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
الحكائية: وهي ركن أساسي من أركان القصة القصيرة جدا وأهمها، فأي قصة لابد وأنها تطرح فكرة معينة من خلال أحداث تؤديها شخوص لتروي حكاية ما عبر منظور سردي ضمن قالب زمكاني متسلسل أو متقطع، وقد نجحت القاصة في المحافظة على هذا الركن الرئيس في قصة (وحشية وبراءة ص96) وهي تحكي جزء من مأساة أسرة تعرض بيتهم الآمن لقصف أدى إلى هدم البيت على من فيه باستثناء الطفلة ذات الأربع سنوات التي كانت تقف في فناء الدار التي لم تدرك معنى الموت، فخمنت أن أخاها سيستيقظ حتما من سباته بعد ما تغسل له أمه وجهه المعفر بالتراب وبالدماء.
وحين لمحت طرف فستان دميتها يظهر أسفل حجر سقط من السقف المهدم بدأت تصيح على المنقذ أن يعطيها دميتها ... وحين لمحتها الطفلة احتضنتها بين يديها وأجهشت بالبكاء ثم قالت: حمدا لله على سلامتك.
إذا كانت القصة قد حددت زمن الحدث دون التصريح به، فإنها كشفت عن وحشية الحرب وويلاته استطاعت ملص أن تجمعها في نص بصورة إيحائية مكثفة. لتأتي خاتمة القصة ساخرة.
الشخصيات:
ترتبط الأحداث بالشخصيات التي تشكل العمود الفقري للنص، فلا حدث دون شخصيات ولا شخصيات دون حدث، إلا إن ق.ق.ج تميل إلى تغييب أسماء الشخصيات وحجبها وراء ضمائر الغائب أو المخاطب، ربما يعود ذلك إلى تطابق الذات القصصية مع ذات المبدع المهمشة التائهة بين سراديب الحياة، مثلما نرى في مجموعة الأرض المشتعلة. حيث جاءت شخصيات القصص غير محددة بالأسماء أو الهوية، وعلى الرغم من غيابها إلا إنها ظلت حاضرة. على سبيل المثال: المرأة التي حيرها بائع الصبر ص41 الجندي الذي أضاع جثة صديقه. ص73
غلب على شخصيات المجموعة الشخصيات النسائية إضافة إلى بعض الشخصيات الذكورية والأطفال والحيوانات.
المكان:
يشكل المكان في القصة والرواية العمود الفقري الذي يحمل بقية عناصر السرد؛ كالزمن والشخوص والأحداث وباقي العناصر، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالأدوات الفنية التي تحدد أبعاده لاسيما الأحداث.
ومن خلال قراءتي لمجموعة سحر وجدت الأماكن عندها متعددة بلا تحديد أو ملامح، كشخصيات المجموعة بلا أسماء، تلونه حسب الأحداث وتمنحه الرمز في بعض الأحيان، كما حاولت أن يظهر المكان بأشكاله مختلفة؛ المغلقة والمفتوحة تبعا لاختلاف مضمون النصوص وأسلوبه في استخدام أدواته الفنية.
ومن أبرز الأماكن التي وظفتها في أغلب قصص المجموعة البيت الذي يجب أن يمتاز بالهدوء وألفة واستقرار، إلا إنه جاء صاحب مهدم حزين تفوح من جنباته رائحة القتل والدم والدمار، كما ورد في قصة مواء» يعاود التجوال في غرف البيت الموحشة وهو يقفز عن الحجارة المختلطة بالأثاث والإسمنت» (مواء آخر ص12)
وتقول: «الطفل الذي اشتاق لبيته المهدم في الحرب بعد ما أقصته الدروب بعيدا عنه، وقد شاهد مقتل أبيه أمام البيت ودفن جثته هناك ليظل حارسا للبيت» (حنين ص53)
حتى الأرجوحة المكان الترفيهي للأطفال تحولت حبالها إلى مشانق. 0الأرجوحة ص25) وسرير الطفل يئن (سرير ص57). ومن الأماكن التي وظفتها: المدينة والقرية والشارع والساحة والمسجد والغرفة وغيرها، وكلها تفوح منها رائحة الموت والدماء
الزمن: وحدة الزمان أيضا من العناصر الأساسية في القصة، وهو في القصة القصيرة محدود بفترة محددة لأن أحداثها محدودة، يؤدّي دورا مهمّا في بناء القصّة؛ فهو يكسبها الحيوية والتدفق والاستمرارية، كما يمنح الأحداث عنصر التشويق، وفي بعض الأحيان قد يلجأ القاص في بعض الأحيان إلى التقديم والتأخير في ترتيب الأحداث، وهذا ما يسمّى المفارقة الزمنية.
فقد جاء الاسترجاع في المجموعة بأشكاله المختلفة، وسأذكر بعض الأمثلة لتديل على ذلك، في «بيت الذكرى» تصادفنا قصّة المرأة تعيش في بيتها تعيش على ذكرياتها وتذكِّرها خلال فترة زمنية، وهي تفتح النافذة لتدخلها أشعة الشمس وتمتزج ضحكات الصغار وثرثرتهم وسط سعال العجوز، .... تخلّلت هذه القصّة بعض الاسترجاعات الخارجية التي حاولت المرأة من خلالها أن تتذكر ماضيها والأيام الجميلة التي قضتها في هذا البيت.
وفي نفس القصة وظفت القاصة تقنية حركة الزمن السردي بإسقاط فترة زمنية من القصة دون الالتفات لما يجري فيها من أحداث فقالت: «والصغار قد كبروا وغادرو البت والقط العجوز هرم ومات» (بيت الذكرى ص14.
وفي قصة عيد الحب طلبت المرأة الأرملة من بائع الزهور أن يصنع لها إكليل ورد تتوسطه وردة حمراء، وأثناء انهماكه في عمله توقف السرد، وراحت الأرملة باسترجاع تتذكر كلام زوجها المفعم بالحب وأجمل هداياه التي كان يخصها وتصف لحظات السعادة التي كانت تغمرها، لتعود القاصة باستكمال السرد من النقطة التي توقف عندها لصالح الاسترجاع. (في عيد الحب ص81)
التكثيف: وقد وظفت سحر التكثيف في قصصها توظيفا رائعا باعتمادها على استعمال أفعال الحركة والاعتماد على الجمل القصيرة بعيدا عن الحشو بالإضافة إلى اعتمادها على وسائل أسلوبية متعددة ساهمت في تحقيق التكثيف منها على سبيل المثال: « المرأة التي اعتادت أن تسرد جزءا من قصة حياتها في كل ليلة للقط الأسود الذي يعيش معها ويشاركها وحدتها، في الليلة الأخيرة التي سهرت مع القط وسردت له آخر جزء من حياتها، وقد كان موجعا جدا. استيقظت في الصباح لتجد القط وقد تحول لون شعره من الأسود للأبيض. (قط ص38)
وفي قصة (طفلة) فقد شاعت فيها أفعال الحركة التي تقول فيها: «القط الذي كان يطارد الطفلة التي تركض خلف الفراشة الجميلة الملونة وهي تمد يديها في الفضاء تصفق تارتا وتضحك تارتا أخرى، لم يفطن القط إلى ما يجري إلا حين اصطدمت الطفلة بحجر كبير جرَّح جسدها الطري وأوقعها أرضا ليسمع صوت بكائها المرير أدرك أن الطفلة عمياء ... وكانت تطارد ظلال نور علها تهتدي لدربها، فالأفعال (يطارد، تركض، تمد، تصفق، تضحك، تفطن، اصطدمت، أوقعها، يسمع، أدرك، تطارد، تهتدي) هذه الأفعال ساهمت في حيوية النص وتكثيفه (طفلة ص43)
المفارقة وكسر التوقع:
تحضر المفارقة بصور متنوعة في قصص سحر مثلما نرى في قصة (مواء) التي تسرد فيها قصة المرأة التي سمعت مواء قطة داخل العربة، فتفقدت داخل السيارة وتحتها وبين العجلات، يزداد صوت المواء، كنت أتابع معها الأماكن التي يمكن للقطة أن تكون فيها، وبعد عناء من البحث تكتشف أن المواء يخرج من أعماق قلبها. ص10
وفي قصة «وقفة» يقف جميع من في الخيمة عندما دخل عليهم الجنرال باستثناء كبيرهم الذي ظل جالسا على الأرض فاتهمه العسس بالمحرض على الاجتماع، لكنه استدار إلى الخلف يبحث عن رجله الصناعية. ص18.
وأخيرا فإن مجموعة (الأرض المشتعلة) للكاتبة المتميزة سحر ملص مجموعة جديرة بالاهتمام تستحق القراءة نظرا لقيمتها الفنية تستحق المزيد من الدراسات والخوض في جماليات القص.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-01-2025 08:30 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |