28-01-2025 09:35 AM
بقلم : د.عاصم منصور
استعرت هذا العنوان من كتاب صدر مؤخراً للكاتب والروائي العراقي علي بدر، وهو أديب واسع الثقافة ورشيق الكلمة، يعرض من خلال كتابه الجديد للعلاقة المعقدة بين المثقَف والسلطة، حين يجد المثقَف نفسه في مواجهة خيارات أخلاقية صعبة بين الولاء لمبادئه أو الانصياع لضغوط السلطة. من خلال هذا الكتاب، يتناول بدر الفضيحة الأخلاقية التي تم الكشف عنها قبل سنوات حول علاقة الكاتب التشيكي الشهير ميلان كونديرا بأجهزة الأمن السرية، وهو الذي عرف بانتقاده للأنظمة الشمولية في رواياته التي من أشهرها "كائن لا تحتمل خفته". ففي عام 2008، ظهرت وثيقة من أرشيف الشرطة السرية التشيكية تتهمه بالإبلاغ عن معارض شاب في عام 1950، مما أدى إلى اعتقال هذا الشاب والحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة تجاوزت عشرين عامًا.
قضية كونديرا تفتح الباب أمام تساؤلاتٍ أعمق حول العلاقة بين المثقف والسلطة: وهل يمكننا فصل إبداع المبدع عن أفعاله؟ وهل يمكن تبرير خيانة كهذه في سياق الخوف والقمع الذي كان سائدًا في تلك الحقبة؟ كونديرا، الذي انتقد في رواياته عَبثيَة الأنظمة الشمولية، وجد نفسه متهما بالتواطؤ مع نفس النظام الذي هاجمه في أعماله، في مفارقة مؤلمة تسلط الضوء على هشاشة المثقف أمام السلطة، وعلى التناقضات التي قد تفرضها الظروف السياسية والاجتماعية على خياراته.
أسوق هذه المقدمة بين يدي الصخب الذي يملأ الفضاء حول المواقف السابقة لبعض المثقفين والفنانين من الثورة السورية، ومسار بعضهم إلى التبرؤ من ماضيه وتغيير جلده ليتم قبوله في "سورية الجديدة". فكما في حالة كونديرا، تبرز هنا إشكالية العلاقة بين المثقف والثورة، حيث تتولد لدى الثوار، بعد نجاح الثورات، مشاعر سلبية تصل حد تصفية الحساب تجاه المثقفين الذين ينظر إليهم على أنهم "خانوا الثورة" أو تقاعسوا عن دعم تطلعات الشعوب. يبدأ الثوار في استرجاع مواقف هؤلاء المثقفين السابقة، خاصة أولئك الذين ملأوا الأنظمة القمعية أو سعوا للتقرب منها، سواء بدافع الخوف أو الطموح الشخصي. ويصبح المثقف، الذي كان يومًا ما جزءًا من النظام أو متواطئًا معه، هدفًا للانتقاد والمساءلة، حتى لو كان قد غير مواقفه لاحقًا.
هذه العلاقة المتوترة بين المثقف والثوار تعكس صراعًا أعمق حول دور المثقف في لحظات التحول التاريخي: هل هو شاهد محايد، أم شريك في التغيير، أم متواطئ مع السلطة؟ فالمثقف، بحكم موقعه، غالبًا ما يجد نفسه في منطقة رمادية، حيث تتداخل المبادئ مع المصالح، والخوف مع الطموح، مما يجعله عرضة للاتهام بالخيانة أو الانتهازية، حتى لو كان دوره أكثر تعقيدًا مما يبدو على السطح.
رغم الجدل الذي أثارته قضية ميلان كونديرا، يبقى الأخير واحدًا من أعظم الكتاب في القرن العشرين فأعماله، التي اسْتكشفت عبء التاريخ والذاكرة والهوية، تظل شاهدة على عبقريته الأدبية، لكن هذه الحادثة تذكرنا بأن المثقف، مهما كان عظيا، يظل إنسانا معرضا للخطأ والتناقض، وتدعونا للتأمل في هشاشة المثقف أمام ثقل الخيارات الأخلاقية، وفي الصراع الأبدي بين الفكر والسلطة.
في النهاية، تظل العلاقة بين المبدع والسلطة، علاقة معقدة لا يمكن اختزالها في ثنائية الأبيض والأسود، وتحمل من التعقيدات ما يدفعنا إلى ضرورة الفصل بين المنتج الإبداعي وخيارات صاحبه الشخصية أو السياسية. فإبداع الكاتب، بما يحمله من رؤى وأفكار، قد يتجاوز حدود أفعاله الفردية ليصبح جزءًا من الذاكرة الإنسانية، فبينما قد تظل حياة المبدع ومواقفه مثار جدل لا ينتهي، فإن أعماله الإبداعية يجب أن تقرأ بمعزل عن تلك الخيارات، بوصفها انعكاسًا لتجربة إنسانية أعمق، لا تختزلها أخطاء الماضي أو تناقضاته، ويبقى السؤال فيما إذا ما خان ميلان ..كونديرا مفتوحاً.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
28-01-2025 09:35 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |