05-02-2025 09:35 AM
بقلم : الدكتور محمد الهواوشة
في عالم السياسة، لا يُحترم الضعيف، ولا يُؤخذ برأيه من يمد يده طلباً للعون. هذه حقيقة لا تحتاج إلى تنظير أو فلسفة، بل تثبتها الأحداث يوماً بعد يوم. عندما نرى دولاً مثل كولومبيا والمكسيك تتخذ مواقف حازمة أمام الضغوط الدولية، بينما تكتفي بعض الدول العربية ببيانات دبلوماسية باهتة، ندرك أن المشكلة ليست في غياب الشجاعة، بل في غياب الاستقلالية الاقتصادية والسياسية.
واليوم، يواجه الأردن اختباراً سيادياً خطيراً، إذ يتعرض لضغط مباشر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يمارس سياسة الابتزاز الاقتصادي لفرض مشروع تهجير قسري للفلسطينيين من غزة. يضغط ترامب على الأردن لاستقبال هؤلاء المهجرين، في خطوة تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة وتصعيد مخطط تصفية القضية الفلسطينية. وهنا يبرز السؤال المصيري: هل يمكن لدولة ذات سيادة أن ترهن قرارها الوطني بالمساعدات الخارجية؟
---
*التبعية الاقتصادية: القيد الذي يخنق القرار السياسي*
لا يمكن إنكار أن العديد من الدول، بما فيها الأردن، تعتمد على المساعدات الخارجية كجزء أساسي من موازناتها، سواء عبر منح مباشرة أو قروض مُرهقة من صندوق النقد والبنك الدولي. هذه التبعية تجعل القرار السياسي مرهوناً بإرادة المانحين، وتحوّل الحكومات إلى أدوات تنفيذية لسياسات القوى الكبرى، تحت تهديد قطع المساعدات.
إن هذه السياسة لم تُبقِ الدول العربية في حالة دائمة من الحاجة فحسب، بل جعلت من "التسول السياسي" أسلوب حكم تُبرر به الحكومات عجزها، وتستخدمه لترهيب شعوبها بسيناريوهات الانهيار الاقتصادي إذا لم تذعن للضغوط الدولية. لكن الحقيقة المُرّة أن هذه الدول لم تفشل فقط في بناء اقتصادات قوية، بل تحوّلت إلى ساحات مفتوحة للابتزاز السياسي، حيث يتم التلاعب بمصيرها مقابل وعود مؤقتة بالدعم المالي.
---
*التهجير القسري مقابل الابتزاز الاقتصادي*
من أخطر مظاهر هذا الابتزاز الحديث، استخدام المساعدات كأداة لتمرير مشاريع التهجير القسري والتلاعب بالتركيبة الديموغرافية للدول. اليوم، يواجه أهل غزة هذا المصير، حيث يُجبر المصابون والمرضى الذين يحتاجون للعلاج خارج القطاع على توقيع وثائق تمنعهم من العودة، في سياسة ترحيل ممنهج تهدف إلى إفراغ غزة من سكانها.
إن الضغط الذي يمارسه ترامب على الأردن لاستقبال المهجرين من غزة ليس مجرد "مساعدة إنسانية"، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى تحويل الأردن إلى "الوطن البديل"، وإنهاء القضية الفلسطينية عبر تهجير سكان غزة قسراً وإعادة توزيعهم قسراً في الدول المجاورة. هذا ليس مجرد خطر على الأردن، بل تهديد مباشر للهوية الفلسطينية وحق العودة، وهو ما يجب التصدي له بكل حزم.
---
*تأثير الضغوط على الأردن: التركيبة الديموغرافية والعلاقات الإقليمية*
1. *التأثير على التركيبة الديموغرافية:*
الأردن يستضيف بالفعل نسبة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين منذ عقود، مما أثر على توازنه الديموغرافي والاجتماعي. استقبال المزيد من المهجرين من غزة سيؤدي إلى تفاقم هذا الخلل، ويزيد من الضغوط على الموارد المحدودة للدولة، مثل المياه والكهرباء والوظائف، مما قد يهدد الاستقرار الداخلي.
2. *التأثير على العلاقات الأردنية الفلسطينية:*
أي خطوة نحو استقبال مهجرين من غزة قد تُفسر على أنها مشاركة في مشروع "الوطن البديل"، مما يضعف الثقة بين الشعبين الأردني والفلسطيني. هذا قد يؤدي إلى توترات داخلية وتأثير سلبي على العلاقات التاريخية بين الجانبين.
3. *التأثير على استقرار المنطقة:*
الأردن يعتبر دولة محورية في المنطقة، وأي تغيير في سياسته تجاه القضية الفلسطينية قد يخلق موجات من عدم الاستقرار في دول الجوار. هذا قد يفتح الباب أمام تدخلات خارجية إضافية، مما يعقد المشهد السياسي في المنطقة.
---
*الأردن أمام لحظة حاسمة: رفض الابتزاز بأي ثمن*
يجب أن يكون الموقف الأردني واضحاً وصارماً: لا لتهجير الفلسطينيين، لا للضغوط الاقتصادية المشروطة، ولا لتحويل الأردن إلى جزء من تصفية القضية الفلسطينية.
التهديد بقطع المساعدات ليس جديداً، لكنه اليوم يُستخدم كورقة ضغط لفرض أجندات غير مشروعة.
لكن، هل الأردن عاجز عن الصمود دون المساعدات الأمريكية؟ الإجابة هي لا. الأردن لديه إمكانيات هائلة إذا استثمرها بشكل صحيح. يمكن للأردن تعزيز إنتاجه المحلي في الزراعة والصناعة والسياحة، وتوسيع الاستثمارات الإقليمية، وتنويع مصادر دخله بعيداً عن الارتهان للإملاءات الخارجية. الدول التي تعتمد على المساعدات لن تمتلك قرارها أبداً، وإذا أراد الأردن الحفاظ على سيادته، فعليه أن يدرك أن الاستقلال السياسي لا يمكن تحقيقه دون استقلال اقتصادي.
---
*نماذج ناجحة: دروس من سنغافورة وماليزيا*
هناك دول نجحت في تحقيق استقلالها الاقتصادي والسياسي رغم التحديات الكبيرة. على سبيل المثال:
- *سنغافورة:* تحولت من دولة فقيرة تعتمد على المساعدات إلى واحدة من أغنى دول العالم. اعتمدت على الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، وبناء اقتصاد قائم على الابتكار والتصدير.
- *ماليزيا:* نجحت في تحقيق نمو اقتصادي سريع من خلال سياسات اقتصادية واضحة، مثل تعزيز الصناعة المحلية وجذب الاستثمارات الأجنبية دون التنازل عن سيادتها.
هذه النماذج تثبت أن الاستقلال الاقتصادي ممكن إذا كانت هناك إرادة سياسية واستراتيجية واضحة.
---
*الحل يبدأ من الداخل*
إذا كان الأردن يريد أن يحافظ على كرامته الوطنية، فإن الحل لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل، عبر:
1. بناء اقتصاد إنتاجي مستقل، والتركيز على الزراعة والصناعة والسياحة بدل الاعتماد على المساعدات المشروطة.
2. رفض أي ضغوط سياسية مقابل المساعدات، والبحث عن شراكات اقتصادية حقيقية بعيداً عن الهيمنة الأمريكية.
3. تعزيز السيادة الوطنية من خلال تمكين الشعب من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، بدل أن تبقى الحكومة خاضعة لإملاءات خارجية.
4. مواجهة التهديدات بسياسات مستقلة وقوية، وعدم السماح باستخدام الاقتصاد كأداة للابتزاز السياسي.
*الرسالة النهائية: لا لمشاريع التصفية.. لا للابتزاز الاقتصادي*
إن مواجهة هذا التحدي لا تتطلب فقط تصريحات دبلوماسية، بل مواقف حازمة ترفض أي محاولة لجعل الأردن جزءاً من مشاريع تصفية القضية الفلسطينية. الأردن لم ولن يكون "الوطن البديل"، ولا يمكن أن يُستخدم كأداة لتفريغ غزة من أهلها.
المطلوب اليوم موقف تاريخي يُترجم إلى سياسات واضحة: لا لاستقبال أي مهجر فلسطيني ضمن مخطط تهجير قسري، لا لأي مساومة على حساب القضية الفلسطينية، لا لأي ابتزاز سياسي يُفرض عبر المساعدات المشروطة.
نريد وطناً مستقلاً، لا مساعدات مشروطة
الدول التي تحترم نفسها لا تستجدي المساعدات، ولا تخضع للابتزاز، ولا تقبل أن تتحول إلى أدوات في مخططات خارجية. الشعوب التي ترضى بالذل الاقتصادي، سيُفرض عليها الذل السياسي، ومن يتخلى عن سيادته اليوم، لن يجدها حين يحتاجها غداً.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، حان الوقت لاتخاذ قرارات جريئة. لا نريد مساعدات مشروطة، ولا قروضاً تُقيّد سيادتنا. نريد وطناً قوياً مستقلاً، يعتمد على إمكانياته ويحافظ على كرامته. الكرامة لا تُشترى بالدولار، بل تُبنى بالإرادة والعمل الجاد.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
05-02-2025 09:35 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |