05-02-2025 10:32 AM
بقلم : د. صلاح جرّار
استغلّ الاحتلال الصهيوني إبرام اتفاقيات وقف إطلاق النار مع كلٍّ من غزّة ولبنان، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية في سوريا بعد الإطاحة بالنظام السابق، والتزام اليمن بعدم إطلاق الصواريخ والمسيّرات على المستوطنات الصهيونية نتيجة وقف إطلاق النار في غزّة، وبدأ في شنّ عدوانه الوحشيّ على مدينة جنين ومخيّمها وقراها ثمّ وسّع عدوانه ليشمل مدينة طولكرم ومخيّمها ومدناً فلسطينية أخرى، مع تركيز عدوانه على مدينة جنين ومخيّمها، وحجّته في هذا العدوان هي الحجّة التي كان يردّدها وهو يشنّ حربه المجنونة على غزّة وهي القضاء على ما يسمّيه (المخرّبين) وتفكيك خلاياهم وإحباط عمليات يخططون لها ضدّ الصهاينة.
وعندما استخدم جيش الاحتلال الحجّة نفسها التي تذرّع بها لشنّ عدوانه على غزّة في عدوانه على جنين وأخواتها، فقد استخدم الأسلحة نفسها لتحقيق أهدافه المعلنة من دبابات ومدافع وطائرات ومسيّرات ونسفٍ لمربّعات سكنية وتدمير للبنى التحتية وإعدامات ميدانية للناس. وقد ارتكب هذه الجرائم وهو يعلم علم اليقين أنّ مخيّم جنين ليس كمخيّمات غزّة عدّةً وسلاحاً وعتاداً ورجالاً، بل هو مخيّم صغير تقلّ مساحته عن نصف كيلومتر مربّع وعدد سكّانه بحدود خمسة وعشرين ألف نسمة، ولا توجد فيه قواعد عسكرية للمقاومة ولا مصانع لإنتاج الأسلحة ولا دبابات ولا صواريخ ولا منصّات إطلاق ولا مسيّرات ولا قنابل ولا قيادة أركان ولا أيّ شيء ممّا يسوّغ الحجم الهائل لهذه الحملة العسكرية الصهيونية وهذا العدد الضخم من القوّات والطائرات والدبابات والمسيّرات وهذا الحشد الذي لا يستخدم إلا في مواجهة بلدان قويّة وجيوش مدجّجة ومدرّبة ودول مسلّحة، ويعلم الجيش الصهيوني الذي يشنّ هذه الحملة الإجرامية الشرسة أنّ المقاومة في جنين ومخيّمها، كما في مخيّمات طولكرم ونابلس وبيت لحم والخليل، لا تعدو أن تكون أفراداً قلائل متحمسين تلاحقهم أعين الجواسيس والعملاء والطائرات المسيّرة ولديهم أسلحة خفيفة وربّما يكونون غير مدرّبين على استخدامها، ولا تحتاج ملاحقتهم أو مهاجمتهم كلّ هذا الحشد العسكري الصهيوني وكلّ هذا التجريف للشوارع والتدمير للبنى التحتية وهذا النسف الواسع للمربّعات السكنية بالمتفجّرات وغير ذلك ممّا يقوم به الاحتلال في مخيم جنين.
وإذا لم تكن الدول العربيّة والإسلاميّة ودول العالم المتحضّر والمتخلّف قد اعترضت على هذا الإجرام غير المتكافئ مع إمكانيات المقاومة فلا أقلّ من أن تتساءل عن سرّ هذا الإفراط في القتل والتدمير والنسف والتهجير لأهل المخيم أمام محدوديّة إمكانيات المخيّم والضعف البالغ لإمكانيات المقاومة فيه.
إن قيام جيش الاحتلال بهذا الهجوم عقب اضطرار الصهاينة لعقد صفقة التبادل في غزّة وإيقاف عدوانه وانسحابه من القطاع، هو شكلٌ من أشكال محاولة استعادة هيبته التي فقد جزءًا كبيراً منها في غزّة، لكنّه بهذه المحاولة يفقد المزيد من هيبته لكونه اختار هدفاً رخواً، واستقوى على المدنيين، ومع ذلك فإنّ هذا الهدف الرخو يتصدّى لهذا الجيش العرمرم بكلّ بسالةٍ وشجاعة وثقة وثبات.
ولا يغيب عن البال ما لدى الصهاينة من رغبةٍ عارمةٍ في الانتقام ممّا حلّ بهم في عملية طوفان الأقصى وما أصابهم في غزّة من خسائر كبيرة في الجنود والآليات، وقد كشفت حرب الإبادة التي قام بها الجيش الصهيوني في غزّة والهجمات الوحشية على بيروت والقرى اللبنانية تعطّشهم للدم والقتل والتدمير والانتقام الذي لا حدود له، ممّا يكشف عن نفسيّة مريضة حاقدة لا تفوّت أي فرصةٍ من الفرص لممارسة القتل والتدمير وإراقة الدماء بدافع الانتقام.
إنّ الانتقام الذي يمارسه الصهاينة في جنين ومدن الضفّة له محرّكات كثيرة في الذاكرة الصهيونية، ليس فقط بما أصابهم في غزّة، بل كذلك بما كانت لهم من هزائم في مدينة جنين في حرب 1948، ثم صمود مخيّم جنين في وجه الهجمات الصهيونية مرّات عديدة سنة 2002، و2022، و2023 وإيقاعه خسائر كبيرة في جيش الاحتلال.
ولا يغيب عن بال الصهاينة أنّ جنين كانت حاضنة ثورة عزّ الدين القسّام التي ما زالت تلهم المقاومة الفلسطينية إلى اليوم.
ولمــّا كانت مدينة جنين ومخيّمهاشوكة في حلق الاحتلال وكان مخيم جنين أكثر المخيّمات الفلسطينية بسالة وصموداً، فقد بدأ الهجوم الصهيوني الأخير عليه، معتقداً أنّه بإخضاعه هذا المخيم يستطيع أن يخضع بقية مخيّمات الضفّة الغربيّة.
ومن جهة أخرى فإنّ استهداف مخيم جنين بهذه الصورة الوحشية الإجرامية يأتي في سياق النظر بعين الخوف والقلق إلى المخيّمات الفلسطينية في كلّ أنحاء الضفّة الغربيّة، لأنّ وجود هذه المخيّمات يذكّر بالاستحقاق التاريخي بحقّ أبنائها في العودة إلى المدن الفلسطينية التي هجّروا منها، وحقّ العودة هذا هو ما يرفضه الصهاينة ويرون فيه خطراً على كيانهم غير الشرعي.
كما أنّ هذه المخيّمات تذكّر الصهاينة على الدوام بأنّهم كيان محتلّ لأراضٍ ستبقى هذه المخيّمات تنتظر العودة إليها آجلاً أو عاجلاً. ولهذا السبب فإنّ لدى الصهاينة حساسيّة عالية جدّاً من امتلاك أي فلسطيني في هذه المخيّمات أيّ قطعة سلاح حتّى لو كانت سكّيناً حادّة، فكيف إذا تشكّلت تنظيمات مسلّحة في هذا المخيّم أو ذاك؟ إنّ مثل هذا الأمر يثير فزع الصهاينة وينذر بطردهم من الأرض التي احتلّوها، ولذلك يستخدم الصهاينة كلّ وسائل البطش بهذه المخيّمات كي يتخلّصوا من هذا الهاجس الذي يلاحقهم ويؤرّقهم. إلا أنّهم مهما ارتكبوا من الجرائم واستخدموا من وسائل القتل والتدمير لن ينعموا يوماً بالأمن والاستقرار حتّى يعود كلّ لاجئ أو مهجّرٍ فلسطينيّ إلى وطنه.
Salahjarrar@hotmail.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
05-02-2025 10:32 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |