06-02-2025 02:29 PM
بقلم : د. عُريب هاني المومني
مع التطوّر التكنولوجيّ وازدياد الاعتماد على الإنترنت كوسيلةٍ للتفاعل الاجتماعيّ والتعبير عن الرأيّ، أصبح الحقّ في التجمّع السلميّ في الفضاء الإلكترونيّ امتداداً طبيعيّاً للحقّ التقليديّ في التجمّع المكفول بموجب العديد من المواثيق الدوليّة لحقوق الإنسان، وعلى رأسها المادة (21) من العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة. فقد باتت المنصّات الرقميّة ساحات جديدة للنقاشات العامّة، والتنظيم الاجتماعيّ، والمطالبة بالحقوق، ممّا يُعزّز دور الإنترنت كساحةٍ ديمقراطيّةٍ مفتوحة.
ويُشير الحقّ في التجمّع السلميّ في الفضاء الإلكترونيّ إلى قدرة الأفراد والجماعات على الاجتماع والتفاعل في البيئة الرقميّة دون تدخلٍ غير مشروع، سواء كان ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو المنتديات الإلكترونيّة، أو غرف الدردشة، أو أيّ شكلٍ آخر من أشكال التجمّع الرقميّ. ويشمل هذا الحقّ تنظيم الحملات الإلكترونيّة، والمشاركة في النقاشات العامّة، والتظاهر الرقميّ، وإنشاء مجموعات للنشاط الحقوقيّ والمدنيّ. إذ تُوفّر التكنولوجيا الحديثة أدوات تجمّع افتراضيّة تتجاوز القيود الجغرافيّة.
ويكتسب هذا الحقّ أهميّةً مُتزايدةً في ظلّ التحوّلات الرقميّة لعدّة أسبابٍ، منها: المساهمةُ في تعزيز حريّة التعبير؛ إذ يُوفّر الفضاء الإلكترونيّ منصةً للأفراد والمجموعات لنقاش القضايا المجتمعيّة والسياسيّة، بعيداً عن التحدّيات التقليديّة. كما يُتيح الفضاء الإلكترونيّ الفرصة للأفراد في المناطق المُقيّدة أو الدول التي تُعاني من تضييق الحريّات للتواصل والتعبير عن آرائهم بحريةٍ وهذا يُوسّع نطاق المشاركة المدنيّة ويُعزّز حقوق الفئات المهمّشة. فضلاً عن إمكانيّة تنظيم الحملات والمبادرات الحقوقيّة، إذ أصبح الفضاء الإلكترونيّ أداةً مهمة لحشد الدعم والتعبئة الاجتماعيّة لقضايا العدالة الاجتماعيّة وحقوق الإنسان، كما شُوهد في العديد من الحركات العالميّة التي انطلقت من الإنترنت إلى الواقع.
وعلى الرغم من أهميّة هذا الحقّ إلّا أنّه يُواجه العديد من التحدّيات –فالتكنولوجيا كما أشرت في مقالٍ سابقٍ سلاحٌ ذو حدّين-. ففي بعض الأحيان تلجأ الدول إلى الرقابة الرقميّة وحجب المحتوى من خلال تعطيل بعض المواقع الإلكترونيّة أو إغلاق منصّات التواصل الاجتماعيّ أو فرض قيود على الوصول إليها؛ لمنع التجمّعات الرقميّة، خصوصاً أثناء الأزمات السياسيّة أو الاحتجاجات. كما تُعتبر إشكاليّة عمليّات المراقبة والتجسس التي تُمارسها بعض الجهات الحكوميّة والخاصة على النشاط الرقميّ أحد تحدّيات التمتّع بهذا الحقّ، ممّا يحدّ من قدرة الأفراد على التجمّع بحريةٍ دون الخوف من الملاحقة أو القمع.
وفي حالاتٍ عديدة تلجأ الدول إلى تعديل وإقرار تشريعات تُقيّد الحريّات الرقميّة، بشكلٍ لا يتواءم مع القيود المنصوص عليها في المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان، تحت ذريعة مكافحة الجرائم الإلكترونيّة. وتُعدّ الهجمات الإلكترونيّة أيضاً واحدة من التحدّيات التي يُواجهها التمتّع بهذا الحقّ، إذ تتعرّض المجموعات الحقوقيّة والنشطاء الرقميّون لهجمات سيبرانيّة تهدف إلى إسكاتهم أو تعطيل نشاطهم، إضافة إلى حملات التضليل التي تهدف إلى التعبئة الاجتماعيّة ضدّ الحركات الحقوقيّة والاحتجاجيّة الإلكترونيّة.
وهنا يثور السؤال حول كيفيّة حماية وتعزيز الحقّ في التجمّع السلميّ في الفضاء الإلكترونيّ.
إنّ مسؤوليّة حماية وتعزيز هذا الحقّ لا تقع على جهة واحدة، وإنّما يقع على عاتق مختلف الفاعلين في المجتمع المحليّ والعالميّ القيام بواجباتهم تجاه حماية وتعزيز التمتّع بهذا الحقّ. إذ على الدول وضع أطر قانونيّة عادلة تحمي حرية التجمّع الرقميّ دون فرض قيود غير مبررة، إلى جانب القيام بإجراءات فعّالة لحماية هذا الحق وتمكين الأفراد من التمتّع به على مستوى الممارسات والسياسات، كما يقع على عاتق القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنيّ في كلّ دولة التعاون والشراكة مع القطاع العام؛ من أجل تمكين الأفراد من التمتّع بهذا الحق، من خلال المساهمة في توفير التكنولوجيّات الحديثة والبنية التحتيّة اللازمة وتوعية الأفراد بحقوقهم وواجباتهم على سبيل المثال. إضافةً إلى ضرورة العمل على تعزيز التعاون الدوليّ؛ لضمان احترام الحريّات الرقميّة باعتبارها جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان التي تمتاز بالعالميّة، ومن المُفترض إشراك المنظّمات العالميّة في هذا الشأن.
وعليه يُمثّل الحقّ في التجمّع السلميّ في الفضاء الإلكترونيّ حجر الأساس لحماية الحريّات المدنيّة، وهو عنصر أساسيّ في تعزيز الديمقراطيّة، وإنّ ضمان هذا الحق في الفضاء الإلكترونيّ يُرسّخ مبادئ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
06-02-2025 02:29 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |