11-02-2025 08:14 AM
بقلم : محمد حسن التل
تحاول العقلية الصهيونية التي قامت على أساسها إسرائيل إعادة مشهد التغريبة الفلسطينية التي حدثت في القرن الماضي عامي 1948 و1967، وتتجاهل أن تلك الظروف التي استطاعت من خلالها تهجير جزء كبير من الشعب الفلسطيني من أرضه تجاوزها الفلسطينيون في سلوكهم الكفاحي ولم تعد صالحة لهذا الزمن، فطبيعة الصراع اختلفت، وانحياز العالم الكامل لإسرائيل انحصر بشكل كبير، وأصبحت الإرادة الدولية في معظمها تقف وراء حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وإقامة دولته، ولم يعد العالم يتقبل فكرة تهجير أو استئصال شعب من أرضه.
مشروع التهجير مشروع عابر لكل الحكومات الإسرائيلية منذ تأسيس إسرائيل، من أقصى اليسار إلى الوسط إلى أقصى اليمين، فهم متفقون على اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وإقامة دولة يهودية خالصة لهم، ولم يبق مع هذا المشروع إلا مساحة صغيرة سواء من الرأي السياسي العالمي أو الرأي العام العالمي، كما أن الفلسطيني لا يمكن أن يعيد التجربة التي حدثت معه في الماضي، ويعتبر الموت على أرضه أكرم له ألف مرة من أن يغادرها، ونشأت الأجيال كلها على هذا المبدأ، وبالتالي المعادلة اختلفت، ولكن الإصرار الصهيوني على تنفيذ المشروع لا زال قائمًا، ولا زالت المحاولات مستمرة بكل السبل على طريق القتل والحرق والتدمير والاعتقال والتنكيل، ولم ييأس الإسرائيليون من كثرة ما سفكوا من دماء وهدموا من بيوت وحتى القبور نبشوها..
نحن أمام إرادتين قويتين تتصارعان، لدى كل واحدة سردية يريد فرضها، السردية الفلسطينية صاحبة الحق في الأرض والتاريخ والوجود، وسردية مزورة قامت على خرافات ومشاريع سياسية لا أساس لها على الواقع.
اليوم تشهد فلسطين صراعًا ديموغرافيا بين الفلسطينيين أصحاب الأرض، والقادمين من خلف البحار ليحتلوا أرض غيرهم ويطردوهم منها، وإن قبلوا بوجود بعضهم فإنهم لا يعترفون بهم إلا كسكان من الدرجة الثانية يعملون على تحجيم كتلتهم البشرية حتى لا يكون لها أي تأثير.
يعود اليوم الحديث عن إمكانية تهجير الفلسطينيين من غزة تحت حجة تهيئة حياة أفضل لهم بعد كل الدمار والقتل الذي حدث هناك، ويتجاوز المتحدثون عن هذا المشروع بفهم أو بدون فهم أن العلاقة بين الفلسطيني وأرضه حصنتها الدماء ورسختها النكبات وكان اللجوء الماضي درسًا عميقًا للأجيال الفلسطينية، فالفلسطيني الذي نشأ في ظل النكبة والنكسة في المخيمات داخل الأرض المحتلة، رضع حلم التحرير منذ يومه الأول قبل أن يرضع لبان أمه، هذه حقيقة يجب أن يدركها أصحاب الحديث عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم، فمن المستحيل بعد كل هذه التضحيات أن يتنازل فلسطيني مهما كان كبيرًا أو صغيرًا عن شبر واحد من أرضه، أو أن يخطو خطوة واحدة خارج حدود وطنه، ففلسطين بالنسبة لأبنائها توازي الجنة في هذا الظرف، فهي لم تعد أرض فقط، بل أصبحت بالنسبة لهم حياة أو موت، والعالم كله يشهد ويراقب بأن الفلسطيني مهما كبر سنه أو صغر، وإن كان رجلًا أو امرأة، يواجه الموت بصدر رحب تحت عنوان الفداء، فكلما زاد الضغط عليه، كلما تمسك في أرضه واستعد للتضحية أكثر، فالأب يدفن ابنه، والأم تفقد ابنها وهما مرتاحا الضمير، لأنهما يعتبران أبناءهما مشاعل على طريق التحرير، هذه معادلة لا يفهمها من يحاول فصل الإنسان عن الأرض في فلسطين، بالمقابل نرى ملايين الإسرائيليين الذين يتركون فلسطين المحتلة سنويًا بعد كل حدث في الصدام الدائر هناك، وهذا يؤشر على انعدام وجود أي ارتباط بين من جاء من خلف البحار وبين من ولد في أرضه وانزرع بها.
مراكز الأبحاث والدراسات في الغرب تعي جيدًا هذه المعادلة، ولكنها تتجاوزها وتحاول أن تغطي عليها لأسباب سياسية. لقد ألقي على غزة آلاف الأطنان من القنابل والمتفجرات فاقت ما ألقي على هيروشيما آلاف المرات وفي كل الحروب التي شهدها العالم، ولم نر واحدًا يشكو أو يحاول الخروج من أرضه، بل ازداد الناس ثباتًا وانزراعًا ومقاومة وإصرارًا على التحدي.
بالنسبة للأردن لم يكن يوما إلا في عين المشاريع التي تحاول تصدير الأزمة إليه وحل القضية على حسابه تحت سيف الترغيب والترهيب لكنه صمد على امتداد عقود الصراع ورفض كل المساومات عل سيادته وأن يكون جزءا من مؤامرة سلب الفلسطينيين حقوهم ودفع أثمانا على هذا الطريق .
الموقف العربي في مواجهة تطورات الأزمة الأخيرة متطور عن السابق وفيه إجماع كبير على رفض ما يخطط للقضية الفلسطينية ، ويقف بصلابة بمواجهة مشاريع التهجير والتصفية لصالح إسرائيل وعلى حساب دول عربية في مقدمتها الأردن ، وما يقوي هذا الموقف أولا أن العرب على مساحة الجغرافية العربية يقفون رافضين التصفية يساندون الموقف الرسمي ، كذلك شبه الإجماع الدولي على رفض المشاريع التي طرحت مؤخرا والإصرار على حل القضية حلا عادلا يعطي الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة..
أما في الأردن فإن التحام الناس مع موقف القيادة يشكل حاجز صد قوي في المواجهة، وهذه ليست أول مرة يتعرض الأردن فيها إلى أزمات تستهدف استقراره لكنه كل مرة يواجهها بجدارة ويخرج منها أقوى ، لأسباب كثيرة أهمها إدراك العالم لأهمية استقرار الأردن وأهمية دوره كصوت اعتدال حقيقي في العالم وفي منطقة تشكل بؤرة الصراع متسلحا بمصداقية السياسة والمواقف .
في المجمل الظرف الذي تمر به القضية الفلسطينية والمنطقة بكاملها أخطر من أي وقت مضى نظرا لتوحش اليمين المتطرف الحاكم في تل أبيب والتغيرات الأخيرة على المشهد الأمريكي ، لذلك لابد من إعادة تموضع أساليب وأدوات التعامل مع هذه التطورات حتى يعبر الجميع هذا المنعطف الخطير.
سيظل الصراع قائما بين السرديتين ، سردية أصحاب الحق والتاريخ وسردية من يريدون إلغاء الآخر والسطو على حقوقه في أرضه .
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-02-2025 08:14 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |