11-02-2025 11:32 PM
بقلم : عمر المهيدات
في قلب العاصفة الجيوسياسية التي تعصف بالشرق الأوسط، حيث تُعاد هندسة التحالفات تحت وطأة الرؤى الأحادية، برز دور جلالة الملك كفاعل استراتيجي قادر على تحويل التحديات إلى منصات لإعادة تشكيل المعادلات الإقليمية، حيث أن ما يجرى اليوم ليس مجرد صراع حول حدود أو موارد، بل هي معركة وجودية ضد إرث استعماريّ متجدِّد يُحاول تغليف ذاته بلغة "السلام الاقتصادي" و"الحلول الإنسانية"، بينما جوهرُه استمرار لسيناريو التجزئة الذي رسمته سايكس - بيكو قبل قرن.
عندما تحوَّل الحوار بين الملك وترامب إلى سجال استراتيجي، كشفت لحظات اللقاء الأولى عن هشاشة خفيّة في مقاربة القوة العظمى، فلم يكن الخلاف يدور حول أي تفاصيل، بل كان صدامًا بين منطقين متعارضين: منطق الهيمنة الأحادية الذي يتعامل مع المنطقة كساحة لتصريف مصالح قابلة للتدوير، ومنطق السيادة الجمعية الذي يُعيد تأسيس مفهوم "الأمن القومي العربي" ككيان عضوي غير قابل للتقسيم. وهُنا حوَّل الملك ورقة "المساعدات الأمريكية" من أداة ابتزاز إلى دليل على فشل النموذج الغربي في فهم تعقيدات المنطقة، مُعلنًا أن "الشرق الأوسط لم يَعُد ساحة لاستنساخ تجارب الوصاية".
لم تكن عبقرية الموقف الأردني مُجرَّد ردّ فعل دفاعي، بل تحوُّل ذكي من الدفاع إلى الهجوم الاستباقي، فإعلان الملك عن تبني الأردن لعلاج ألفي طفل غزيّ لم يُقدِّم الأردن بأنه يقوم بدوره الإنساني فحسب، بل فجَّر تناقضات السردية الصهيونية التي تُتاجر بمعاناة الشعوب وتُقدِّم نفسها كـ “دولة داعية للسلام". حيث أن هذه الخطوة حوَّلت معاناة الغزيّين إلى قضية عالمية تُجبر المجتمع الدولي على مواجهة حقيقة الاحتلال الصهيوني.
وفي الوقت ذاته، أعاد الأردن تشكيل التحالفات الإقليمية عبر إشراك مصر والسعودية، محوِّلًا الملف من ثنائية أمريكية - صهيونية إلى تحالف عربي ثلاثي الأبعاد، يعيد الاعتبار لفكرة "العمق الاستراتيجي العربي" ويُعيد توازن القوى لصالح المشروع التحرري.
كما لم تكن عبارة الملك "القضية الفلسطينية تُدار من قلب الحضن العربي" مجرد شعار عاطفي، بل إعلان واضح عن ميلاد مرحلة جديدة من الفعل الجيوسياسي العربي، ففي هذه المرحلة، تتحوَّل الوحدة العربية من خطاب شعاراتي إلى استراتيجية عمل ملموسة عبر تحالفات أفقية تعتمد التكامل الأمني والاقتصادي، كما تُستعاد القضية الفلسطينية كمركز لـ “الهوية الجيوسياسية العربية"، بدلًا من كونها عبئًا يُدار بالوكالة. ومن هُنا تتحوَّل الدول العربية من ردّ الفعل إلى صناعة الحدث، مستغلة التناقضات الدولية لصالح مشروعها التحرري.
لكنَّ الخطر الأكبر يكمن في محاولات إعادة إنتاج الاستعمار بوجه إنساني، فخطة ترامب المزعومة ليست سوى حلقة في سلسلة المشاريع الغربية التي تستخدم "الإنسانية" كغلاف لتمرير التهجير الديموغرافي، وأرى أنها استنساخ لسيناريو التهجير الفلسطيني عام 1948، لكن بآليات حديثة تعتمد على خنق المقومات الحياتية، وهي محاولة لتحويل الدول العربية إلى شركاء في تطبيع التطهير العرقي عبر ابتزازها بأزمات اللاجئين، والأخطر أنها تُكرّس ثقافة "الدولة الفاشلة" في الوعي العالمي، كي تبقى المنطقة ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية.
صدقًا قَدَّم الأردن نموذجًا مُميزًا لانقلاب المعادلة الجيوسياسية، فبينما تعتمد واشنطن على أدوات القرن العشرين كالابتزاز المالي والتهديد الأمني، يعيد الأردن تعريف مصادر القوة في القرن الحادي والعشرين عبر ثلاث ركائز: الشرعية الأخلاقية بتحويل المعاناة الإنسانية إلى سلاح دبلوماسي، والتحالفات المرنة عبر شبكات تضامن إقليمية لا مركزية، والسرديات المضادة التي تكشف تناقض الخطاب الغربي.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-02-2025 11:32 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |