15-02-2025 09:07 AM
بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
إن أنجع السبل القانونية والإدارية لدرء الفساد الإداري والمالي ومنع الانحراف في الإدارة العامة ؛ هو الرقابة المسبقة على القرارات الصادرة عنها ، ذلك أن الفساد والانحراف إنما يزداد خطراً واتساعاً إذا كانت الإدارة بمنأى عن الرقابة والمساءلة ، فتُتَّخذ القرارات فيها دون حسيب أو رقيب أو متابعة ، وبما أن المؤسسات الرقابية التقليدية عاجزة عن لجم الفساد وكبح جماح الانحراف ؛ كان لا بد من وسيلة أو أسلوب آخر يقوم بهذا الدور ، يقوم على ما يشار إليه في علم الإدارة بالرقابة المسبقة على تصرفات الإدارة وسلوك الموظفين .
وقد أدركت كثير من الدول المتقدمة أهمية هذا النوع من الرقابة ، وضرورة الأخذ به لضبط تصرفات الإدارة العامة ، وتحقيق العدالة خارج إطار النظام القضائي . يتماشى استحداث هذا النظام مع المهام الكبيرة المترتبة على اتساع تدخل الدولة في نشاط الأفراد تحت شعار الحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة ، الذي يشكل غاية العمل الإداري ومناطه ، والذي تدور حوله مشروعية أو عدم مشروعية تصرفات الإدارة . وعزز هذه الضرورة تزايد الشعور بعدم كفاية الوسائل التقليدية في الرقابة على أعمال الإدارة وحماية حقوق الافراد وحرياتهم من جهة ؛ وللعيوب التي تكتنف تلك الوسائل من تعقيد في إجراءاتها ، وبطئها ، وتكاليفها الباهظة من جهة أخرى .
ومن الوسائل البديلة أو الرديفة التي أثبتت نجاحها في القيام بهذا الدور ما يسمى بنظام ( الأمبودسمان Ombouds man ) أو المفوض البرلماني ، الذي انتشر في الدول الاوربية الإسكندنافية منذ بدايات القرن التاسع عشر . وقد سار العمل - قبل عام 1915م - على انتخاب امبودسمان واحد يسمى Justitue omboudsman يمارس جميع الاختصاصات الموكولة إليه فيما يتعلق بالرقابة الإدارية على نشاط الإدارة العامة ، والمحاكم ، والقوات المسلحة ، لكن بعد ذلك التاريخ أصبحت المسائل المتعلقة بالقوات المسلحة من اختصاص امبودسمان آخر . يتم انتخاب الأمبودسمان - الذي قد يكون قاضياً أو موظفاً أو استاذاً في القانون - لمدة معينة من قبل أعضاء البرلمان ، يُتخذ له مقر خاص ، ويعاونه فريق من المختصين في هذا المجال .
والأمبودسمان كلمة سويدية يراد بها المفوض أو الممثل ، وهو شخص مكلف من قبل البرلمان بمراقبة الإدارة والحكومة ، وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم . وقد استحدثت السويد هذا النظام في دستورها لعام 1809م ليكون وسيلة لتحقيق التوازن بين سلطة البرلمان والسلطة التنفيذية ، وللحد من تعسف الأخيرة في استخدامها لامتيازاتها في مواجهة الأفراد أو الولوغ في استخدام المال العام وتبديده . وقد تطور هذا النظام حتى بات يطلق عليه اسم ( حامي المواطن ) فهو الممثل الرسمي الذي يلجأ إليه المواطن طالباً حمايته وتدخله إذ ما صادفته مشاكل أو صعوبات مع الحكومة أو الجهات الإدارية .
ومن اختصاصات هذا النظام حماية القيم السياسية للمجتمع وتطبيق المبادئ المقررة في الدستور والقانون ، التي تهدف أساساً إلى حماية حقوق الشعب وقيمه الدينية والمقومات الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية ، والحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة ، وحماية الوحدة الوطنية ، والحفاظ على السلام الاجتماعي .
وللمفوض حق إقامة الدعوى أمام المحاكم المختصة ضد من ارتكبوا أعمالاً مخالفة للقانون بسبب التحيز أو المحسوبية أو أي سبب آخر ، أو أهملوا في تأدية واجباتهم على النحو المطلوب . ويمارس الأمبودسمان اختصاصه في ثلاث مجالات : الرقابة على نشاط الإدارة العامة ، والرقابة على جهاز القضاء ، والرقابة على القوات المسلحة .
والمهمة الرئيسية بموجب هذا النظام تقضي بأن تُرسل نسخة من أي قرار يصدر عن الجهة الحكومية إلى الرقيب قبل إصداره أو إنفاذه ، ليطلع عليه ويتحقق من مدى سلامته من الناحية القانونية والإدارية ، ومراعاته للقيم الدينية والأعراف الاجتماعية ، وتحقيقه للصالح العام ، فإذا ما تحققت له سلامته وفق المعايير المذكورة أمضاه ، وأعاده ممهوراً بتوقيعه إلى الجهة التي أصدرته ، للمضي في إجراءات الإعلان ثم التنفيذ . وبذلك تتحقق الشفافية والعدالة ، ويُدرأ خطر الفساد والانحراف .
لقد حقق هذا النظام في الدول التي أخذت به نتائج مبهرة في تحقيق العدالة وكبح جماح الفساد ولجم الفاسدين ، لهذا كانت السويد والدول التي أخذت به من أقل دول العالم فساداً وأكثرها شفافية ، وبالتالي فهي أكثرها ازدهاراً وتطوراً واستقراراً ، تؤكد ذلك التقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية .
وبالنظر للنجاح الكبير لهذا النظام فقد أخذت العديد من الدول بأنظمة مماثلة له ، كما حصل في فنلندا التي أخذت به عام 1919م ثم الدانمارك بمقتضى دستورها لعام 1953 ، وتم انتخاب أول أمبودسمان فيها عام 1955 ، كذلك أخذت به نيوزلندا والنرويج عام 1962 ، والمملكة المتحدة وكندا عام 1967 . بل إن بعضها قد جعل لكل شركة أو دائرة امبودسمان خاصاً بها .
هذا ما يجري عليه العمل في الدول التي أخذت بهذا النظام ، وتلك النتائج التي ترتبت عليه ، والفوائد الجليلة التي تمخضت عنه . ونحن في الاردن أحوج ما نكون إلى مثل هذا النظام الذي أثبت فاعليته في لجم الفساد والحد من التصرفات اللامسؤولة للإدارة في استغلال المناصب الإدارية ، والاستهتار بالمال العام وتوظيفه في غير الغايات المقررة له في الموازنات العامة السنوية . فقد استفحل لدينا الفساد وتمغط وتجذر ، مستغلاً غيبة الرقيب أو غفوته ، حتى بات من الصعب اجتثاثه أو الحد من سطوته وغلوائه ، وقد فشلت عدة حكومات متعاقبة في كبح جماح الفساد وردعه ، بل ساهمت هي نفسها في انتشاره وتعظيم خطره ، لأنها كانت في منأى عن الرقابة والمساءلة ، رغم أنها قد ضمَّنت بياناتها التي حصلت بها على ثقة مجلس النواب بنداً رئيسياً تعد به بمحاربة الفساد ، ولكنه تضمين من باب ذر الرماد في العيون ، وذلك لنيل الثقة وحسب ، ثم تمارس دورها في الفساد والإفساد .
وقد جربنا مؤسسات رقابية عديدة ، تحت مسميات مختلفة ، ولم نحصل على نتيجة نبلغ بها أهداف إنشائها ، بل تقودنا من فشل إلى فشل ، حتى تراكم الفساد وأصبح غولاً يعذر اجتثاثه أو كبح جماحه ، وكان آخر هذه المؤسسات ما يسمى بهيئة مكافحة الفساد وهي هيئة لا تغني عن نظام الأمبودسمان بحال ، وليست بديلاً منه ، فالأمبودسمان نظام وقائي يمنع الانحراف قبل ظهوره ، ويقمع الفساد في بواكيره ، بينما يقتصر دور الهيئة على التحقيق في الشكاوى والتجاوزات التي ترفع إليها من الجهات المختلفة ، أي بعد وقوع الفساد واستفحال أمره ، وقلما تفلح في ذلك ، وهي بقانونها الحالي عاجزة عن كبح جماح الفساد الذي خرج عن السيطرة ، لأنها خرجت من رحم الحكومة ، والحكومة لا يمكن أن تنشئ مؤسسة تراقبها وتضبط تصرفاتها ، وتمنعها من تجاوز صلاحياتها ، فكيف لها أن تلجم الفساد بهيئة مبقرطة مشلولة كهذه .
والصورة المقترحة محلياً لمثل هذا النظام ؛ هي استحداث دائرة أو قسم في مركز كل محافظة يطلق عليه اسم دال على المهمة التي أنشئ من أجلها ، وليكن ( المحتسب ) مثلاً ، بحيث يراجع ويتابع القرارات الصادرة عن كافة الدوائر الحكومية في المحافظة قبل صدورها ، ويتابع الشكاوى التي ترفع إليه من المواطنين في مواجهة الحكومة ، وبموجب هذا النظام القويم نحقق العدالة والشفافية والنزاهة بأيسر سبيل وبأقل التكاليف ، كما يتقلص نسبياً دور المؤسسات الرقابية الأخرى الحالية ، كهيئة مكافحة الفساد ، وديوان المحاسبة ، وما يسمى بديوان المظالم ، وسواها من هذه المؤسسات ، لأن المحتسب قد وفر عليها كثيراً من الجهود في هذا المجال ، وكفاها مهام المتابعة والتدقيق .
د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-02-2025 09:07 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |