16-02-2025 08:36 AM
بقلم : أ. د. ليث كمال نصراوين
فاجأ جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الرئيس الأميركي ترامب في لقائه الأخير معه قبل أيام بإعلانه أن الأردن سيستضيف ألفي طفل من قطاع غزة للعلاج في مستشفياته ومراكزه الصحية، وهو القرار الذي لقي استحسان الرئيس ترامب واستغرابه في الوقت نفسه، مما دفعه إلى توجيه عبارات الشكر والتقدير لجلالة الملك أمام كافة وسائل الإعلام العالمية.
إن هذا الموقف الإنساني الذي عبّر عنه جلالة الملك يأتي في سياق الدعم اللامحدود الذي يقدمه الأردن للأشقاء في فلسطين وقطاع غزة تحديدا منذ بدء العدوان الإسرائيلي عليه. فإلى جانب المستشفيات الميدانية التي أمر جلالة الملك بإنشائها في قطاع غزة لتقديم العلاج الطبي للمحتاجين، كانت الحدود الأردنية مفتوحة دائما لنقل المصابين من كافة الفئات والأعمار إلى الأردن للاستشفاء وتلقي العلاج المناسب.
ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس ترامب يتحدث عن نقل الفلسطينيين إلى خارج قطاع غزة بحجة توفير الحياة الفضلى لهم، أظهر جلالة الملك الجانب الإنساني منه بأن أعلن أن أطفال غزة سيأتون إلى الأردن للعلاج من الأمراض الخطيرة التي يعانون منها، إذ نجحت آلة الحرب الإسرائيلية في تدمير البنية التحتية الصحية في غزة، بشكل حرم سكان القطاع من أبسط حقوقهم الطبيعية، وهو الحق في العلاج.
وعلى الرغم من هذا الموقف الملكي النبيل، فقد استغل أصحاب الأجندات الخاصة والحاقدون المتربصون للأردن هذا التصريح وقاموا بتأويله وتفسيره على أنه نقطة البدء في قبول تهجير الفلسطينيين. فالعدد الكلي من المنتقلين إلى الأردن للعلاج بالنسبة لهم سيكون أكبر بكثير، فهم يرون أن أطفال غزة سيحضرون إلى الأردن برفقة ذويهم وعائلاتهم، وأن معدل عدد أفراد الأسرة الواحدة في قطاع غزة في رأيهم يقارب الثمانية، مما يعني أن عدد الفلسطينيين الذين سينتقلون إلى الأردن بحجة العلاج سيصل إلى عشرات الألوف.
إن هذه السوداوية والحقد الدفين على الأردن بمواقفه الثابتة من القضية الفلسطينية قد وصل مراحل غير مسبوقة؛ فهؤلاء المحللون يقدمون أنفسهم على أنهم خبراء في السياسة والقانون وهم في الواقع بعيدون كل البُعد عن أبسط معايير الفهم والإدراك القانوني. فهم لا يعرفون عن القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني سوى لفظه ومسماه.
فالتهجير لغايات القانون الدولي هو إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من أراضيهم التي يقيمون عليها جبرا ونتيجة للضغوطات العسكرية التي تمارس عليهم والانتهاكات الجسيمة التي يتعرضون لها. فالمادة (7) من من نظام روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية قد عرفت التهجير بأنه «إبعاد السكان ونقلهم القسري متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين». كما عرفته المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب بأنه النقل الجبري الجماعي للأشخاص المحميين، ونفيهم من أراضيهم التي يقيمون عليها إلى أراضي أي دولة أخرى.
إن عملية التهجير القسري تعد جريمة ثلاثية الأركان؛ فهي تعتبر وفق أعراف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب لأغراض سياسية أو عرقية أو دينية في إطار هجوم عسكري واسع النطاق. كما أنها تعد صورة من جرائم الإبادة الجماعية كونها تتسبب بنقل المدنيين وأطفالهم قسرا إلى مناطق أخرى لدفعهم نحو الهلاك بشكل كلي أو جزئي، وأيضا تصنف على أنها من جرائم الحرب كونها تتم بصورة مخالفة لاتفاقيات جنيف لعام 1949.
وعليه، فإن القانون الدولي يشترط في جريمة التهجير القسري أن يرافقها استخدام القوة والبطش بالسكان الأصليين، وأن يتم نقلهم وإجبارهم على مغادرة أراضيهم بالقوة لتحقيق أغراض سياسية أو عرقية، وأن يكون الهدف من هذا الإجبار القضاء عليهم ضمن ما يعرف بسياسة التطهير العرقي.
فهذه الصور والأشكال التي دائما ما ترافق عملية التهجير القسري لا تتوافر في حالة انتقال أطفال مصابين بأمراض خطيرة من قطاع غزة إلى الأردن، وذلك لأهداف إنسانية محضة تتمثل بتلقي العلاج لفترة زمنية قصيرة ليعودوا بعدها إلى وطنهم الأصلي ويستمروا في الدفاع عنه والتشبث به. فلا أهداف سياسية أو دينية أو حتى عرقية للأردن من نقل أطفال مصابين بالسرطان إليه، كما أنه ليس لديه أي مطامع غير مباشرة في توطينهم في بلدهم الثاني، وإنما استضافتهم للعلاج قبل إعادتهم سالمين إلى فلسطين دولتهم.
إن من يتهم الأردن بسعيه إلى تهجير أهل غزة من خلال أطفالهم المرضى يعاني من ضعف واضح في البصر والبصيرة. فالأردن كان في مقدمة الدول التي كسرت الحصار الإسرائيلي وأرسلت المساعدات الطبية والغذائية والخيم للأشقاء في قطاع غزة، حيث تشير التقارير الصحفية إلى أن الأردن قد أرسل أكثر من (75) ألف خيمة الى القطاع منذ بدء العدوان الإسرائيلي.
كما أن جلالة الملك في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في افتتاح المناقشة العامة للدورة التاسعة والسبعين نهاية العام الماضي قد دعا جميع دول العالم إلى الانضمام إلى الأردن لإنشاء بوابة دولية يتم من خلالها إيصال المساعدات الإنسانية إلى الأهل في قطاع غزة من غذاء ومياه نظيفة ودواء وغيرها من الإمدادات الحيوية لمن هم في أمس الحاجة إليها. فمن يملك هذه المبادرات الإنسانية لا يمكن أن يكون هدفه التوطين أو التهجير بأي شكل من الأشكال.
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
laith@lawyer.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
16-02-2025 08:36 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |