23-02-2025 09:25 AM
بقلم : ا. د. عبدالله سرور الزعبي
تذكر بعض الروايات بان سيدنا ادم نزل في أحد المناطق الجغرافية الواقعة ضمن الشرق الأوسط الحديث، وهو الذي يشكل قلب العالم، وتلتقي فيه القارات العالمية القديمة (اسيا وافريقيا وأوروبا).
ان الحياة التي حظي فيها سيدنا ادم لم تنتهي بسلام، حيث قتل أحد ابناءه الاخر ونزفت اول دماء بشرية (وما زالت الدماء تنزف) في هذه المنطقة، ومنذ ذلك التاريخ وهو محط أحلام البشر والمتنافسين منهم للسيطرة عليه وعلى ثرواته.
فاذا كان أبناء ادم علموا البشرية دفن الموتى، فان السومريون، الذين يشير بعض المؤرخين بان اول ظهور لهم كان قبل 14,000 سنه، وبنوا مدينه اورك قبل 5000 سنه، وعلموا البشرية الكتابة، والادب عن طريق ملحمة جلجامش واستخدام العجلة. اما الاكاديون، فكانوا متعددي الثقافات، وأول من انشاء الحكومة المركزية، والفراعنة في مصر علموا البشرية فن البناء والهندسة، والبابليون اول من سن القوانين وبنوا الحدائق المعلقة، ومنحوا للنساء حقوق مساوية للرجال، والحيثين قاموا بصهر المعادن والاشوريون اول من انشووا المكتبات، وغيرها من الحضارات كالاخمينية (الفارسية الأولى) والفينيقية والكنعانية والآرامية والميدية والكلدانية والادومية والعبرية والحميرية والنبطية (البتراء شاهدة على انجازاتهم) والفارسية الزرادشتية، والاغريقية الهلنستية والرومانية (يشير بعض المؤرخين بان حروبهم في القرون الخمسة الميلادية الاولى كانت اشبه ما تكون دينية، بين المسيحية الهيلينية والزرادشتية) والعرب في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، حيث اتقنوا فن التواصل مع الاخرين للتكامل الاقتصادي، وغيرهم الكثير، وجميعهم لهم انجازات مختلفة في الزراعة والتجارية والبناء والفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية وغيرها.
كما ان هذه الحضارات كانت قد تعاونت فيما بينها أحيانا واختلفت الى درجة الابادة احياناً أخرى، وكل هذا يعود الى ان الصراع بأنواعه المختلفة هو من خصائص البشر، كما ان اختفاء تلك الحضارات كان بسبب عدم قدرة شعوبها من المحافظة على التنمية التي تؤمن لها الاستقرار الداخلي والتحالفات الأمنية غير الضرورية احياناً وعدم تقبل الحضارات الدخيلة.
يضاف الى ذلك بان المنطقة شهدت ظهور اول الأنبياء واخرهم، وظهور الديانات التوحيدية كاليهودية والمسيحية والإسلامية، والتي بظهورها انتهى ما تبقى من الحضارات السالفة الذكر في المنطقة.
وعلى الرغم من ان عصر الخلافة الاسلامية يعتبر العصر الذهبي للمنطقة من حيث الاكتشافات العلمية والابداع الادبي والقوة السياسية والعسكرية ومع كل ذلك فهي لم تنعم بالهدوء المطلوب فانطلقت الثورات الاموية، والعباسية والهجمات المغولية والحملات الأوروبية وغيرها، وكلها جاءت طمعاً في ثروات الشرق والسيطرة على الطرق الاقتصادية او انتقاماً، الى ان ظهرت الدولة العثمانية والتي انتهت مع انطلاقة الثورة العربية الكبرى عام 1916 وانتهاء الحرب العالمية الأولى حيث ظهرت اول حلقات التغير في الجغرافيا السياسية للمنطقة.
تبعها انهيار النظام الاستعماري مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور دولة إسرائيل بقرار اممي، لتشكل الحلقة الثانية من التغير العميق في الجغرافيا السياسية للمنطقة (مع الاخذ بعين الاعتبار بان تغيرات أخرى حدثت في مناطق مختلفة في العالم)، لتبدأ مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي مدعوماً من القوى العظمى لصالح إسرائيل الوليدة.
ان الجغرافيا السياسية الجديدة أدت الى ظهور العديد من الثورات والصراعات الدينية والعرقية والتطرف وصولاً الى الصراع بين الشعوب والدول (التنافس الإيراني والتركي والعربي، من منطلق التاريخ الامبراطوري لكل منهم)، مما أدى الى زيادة في النفوذ الاسرائيلي ونفوذ الدول العظمى (خاصة الدول أعضاء نادي الحضارة الغربية المهيمنة خلال العقود السبعة الماضية) السياسي والتدخلات العسكرية ان تطلب الامر، كما سهل على الدول المتنافسة للفوز بمصادر الطاقة (النفط والغاز) باعتبارهما المحرك الرئيسي للاقتصاد الصناعي لدولهم.
اما مفهوم صراع (صدام) الحضارات، فالجميع يعتقد بانه ظهر عام 1990 من قبل برنارد لويس (جذور الغضب الإسلامي)، ومن ثم استخدمه هنتنغتون عام 1993 وعام 1996 في كتاب صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي (بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مباشرة، والخطاء العراقي بدخول الأراضي الكويتية، وهذا الحدثان خلقا جغرافيا سياسية جديدة في العالم، وفوضى في الشرق الأوسط ستبقى اثارها طويلاً)، الا انه في الواقع كان قد اشير المصطلح من قبل يينون (الصحفي الإسرائيلي) عام 1982 كصراع إسلامي مسيحي يهودي، والذي سنعود اليها لاحقاً.
وعلى الرغم من الإشارة الى ان الحضارات المتصارعة هي الغربية والصينية، واليابانية والارثوذكسية والهندية واللاتينية والافريقية والبوذية والإسلامية في العالم، الا انه ومن وجهة نظر البعض بان المتصارعين على المنطقة هم المسلمين (سنه وشيعه) والارثوذكس من اهل المنطقة والحضارة الغربية، وبالتالي يفترض البعض بان الحضارة الغربية ستنتصر وستسيطر على المنطقة بالكامل.
اعتقد ان نظرية صدام الحضارات ظهرت لتخفي خلفها الخطط الاستراتيجية المرسومة للمنطقة والعمل جاري لتحقيق أهدافها مع تغير في التكتيك احياناً حسب الظروف الجيوسياسية العالمية والإقليمية.
ان أصحاب فكرة انتصار الحضارة الغربية لم يأخذوا بعين الاعتبار ان الشرق الأوسط، المنطقة الوحيدة بالعالم التي غادرت كافة الحضارات الدخيلة اليه وبقي فيها العرب المتجذرين بلغتهم ودياناتهم وهم الثابت الوحيد فيها. ومع كل ذلك ستبقى المنطقة ارض الاحلام ومحط انظار البشرية كافة وحتى نهاية التاريخ.
ان عاصفة التصريحات التي يشهدها العالم والصادرة عن الرئيس الأمريكي لشراء قطاع غزه كصفقة عقارية لم تأتي من فراغ. فقد سبقه الى ذلك ليفي اشكول في ستينات القرن الماضي، حيث اقترح دفع الأموال للفلسطينيين لترك أراضيهم والمغادرة، كما ان شمعون بيرس كان قد اقترح في تسعينات القرن الماضي تحويل غزه الى سنغافورة الشرق الأوسط عن طريق تطويرها كمركز تجاري وسياحي والصناعة التكنولوجية، منطلقاً من الموارد البشرية المتوفرة فيها ذات التعليم الجيد والمهارات التقنية المطلوبة لاقتصاد المعرفة آنذاك.
ثم جاء لاحقاً كوشنير في عام 2019 ليعلن بان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو نزاع عقاري، يمكن التعامل معه بصفقة مقبولة للجميع، يتبعها تطوير ساحل غزه بطريقة مذهلة، وتطوير قطاع النقل البحري والجوي والبري لتصبح بوابة اقتصادية عالمية، مع التأكيد على عدم التطرق للحلول السياسية، كما انه أشار في شباط 2024 الى ضرورة اخراج الفلسطينيين الى سيناء او النقب. ان تصريح ترامب بأخلاء غزة من أهلها، وهو المخالف للقوانين الدولية ادخل العالم في حالة من الارباك والفوضى، وهو الهدف الذي يسعى اليه بطريقته الخاصة بصنع الفوضى لدى الاخرين وارباكهم ومن ثم يعمل على إعادة الترتيب بطريقته التي تحقق له ما يسعى اليه.
كما ان ترامب في تصريحاته عن شراء غزه والسيطرة عليها، قد يكون انطلق من التاريخ الأمريكي في التوسع الجغرافي للدولة عن طريق شراء الأراضي من الدول، فعلى سبيل المثال شراء مانهاتن عام 1626من الهنود الحمر وشراء لويزيانا عام 1803 من فرنسا، وصفقة فلوريدا وما تبقى من لويزيانا عام 1859 من اسبانيا، وشراء جنوب لويزيانا وجنوب نيومكسيكو من المكسيك عام 1854، وشراء الاسكا من روسيا عام 1867، وجزر هاواي (التي انضمت الى الولايات المتحدة عام 1959) وجزر الفلبين عام 1898 من اسبانيا (استقلت الفلبين عام 1946) وجزر العذراء من الدنمارك عام 1917، ومحاولة شراء غرينلاند عام 1946 عند طريق الغاء ديون الدنمارك، ثم تكرار المحاولة في ستينات القرن الماضي، ومحاولة السيطرة على جزيرة سانت مارتن في خليج البنغال، الامر الذي رفضته رئيسة وزراء بنغلادش الشيخة حسينة والتي تم الإطاحة بها عام 2024 باحتجاجات شعبيه (وهي التي تعزي سبب ذلك لرفضها الطلب الأمريكي). ان المدقق في تاريخ هذه الصفقات يجد ان أمريكا كانت قد انتهزت فرصة الازمات وخاصة الاقتصادية منها والتي كانت تعاني منها الدول التي وافقت على تلك الصفقات.
اما من حيث الاهتمام بالسواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، فقد سعت الدول الكبرى للسيطرة عليها، وتعود الى أفكار قيصر روسيا بطرس الأعظم لإيجاد موقع على ساحله لتسهيل السيطرة على العالم، تبعها فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول وصولاً الى امريكا.
في الجزء الثاني من المقال سنتحدث عن التصريحات المتعلقة بالصفقة وأهدافها وأثرها على الساحة الإقليمية والوطنية.
الغد
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-02-2025 09:25 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |