25-02-2025 04:35 PM
بقلم : د.نشأت العزب
في عمق هذا العالم المتغير تبدو الوظيفة كما نعرفها اليوم فكرة كلاسيكية قديمة لا تنتمي إلى المستقبل الذي يتشكل أمام أعيننا، لقد ظلت الوظائف لعقود طويلة هي الطريقة الأساسية التي يضمن بها الإنسان حياته واستقراره، لكنها كغيرها من المفاهيم ليست سوى انعكاس لفلسفة اقتصادية واجتماعية محددة قائمة على التبعية للنظام الاقتصادي التقليدي الذي أصبح غير قادر على استيعاب هذا الكم الهائل من البشر و طموحاتهم وأحلامهم.
عندما ننظر إلى البطالة نجد أنها ليست مجرد مشكلة اقتصادية فحسب، بل هي أزمة وجودية تعكس انفصال الإنسان عن ذاته الإنتاجية، ان النظام التعليمي التقليدي يعد الشباب ليكونوا أدوات في آلة إنتاجية ضخمة، لكنه يفشل في إدراك أن هذه الآلة قديمة و لم تعد قادرة حتى على استيعاب هذا الكم الهائل من الخريجين لا بل انها تنهار تحت وطأة التحولات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية و حاجة السوق.
لم تعد البطالة مجرد أزمة اقتصادية أو اجتماعية فحسب-و أنا لا اقصد في هذا المقال نسبة البطالة الحالية فعلى الرغم من ارتفاعها الا ان المستقبل لا يبشر بأي نتائج إيجابية في حال بقينا نحاول حل مشاكل البطالة بنفس العقل الذي نحاول به حاليا- بل أصبحت البطالة تهديدًا لمستقبل أجيال بأكملها، خاصة مع ارتفاع أعداد الخريجين بشكل غير مسبوق في مختلف التخصصات، فحتى من المجالات الطبية والهندسية إلى التخصصات الإنسانية، فالشباب اليوم يعاني من نقص حاد في فرص العمل بينما يقف الاقتصاد المحلي عاجزًا عن استيعاب هذا الكم الهائل من الباحثين عن الوظائف، و بطبيعة الحال لا يمكن لوم الحكومات في عدم القدرة على توفير فرص عمل، بل في عدم التفكير بطريقة مختلفة في حل هذا المشكلة الحقيقية التي تعد ركيزة الاقتصاد الوطني و اساس استقرار المجتمعات، فالموازنة الحكومية المثقلة بالديون والتحديات الاقتصادية لم تعد قادرة على خلق وظائف تستوعب هذه الأعداد، بل أصبح واضحاً أن الحلول التقليدية مثل زيادة التوظيف الحكومي أو تطوير القطاع الخاص لا تكفي لتجاوز الأزمة بل تفاقمها، ومع دخول التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في جميع المجالات، تقل الحاجة إلى الأيدي العاملة البشرية، ما يفرض علينا إعادة التفكير في جذور المشكلة وحلولها المستقبلية.
إذا نظرنا لهذا الأمر بعمق، قد يكون المستقبل الذي نتحدث عنه فرصة لتعزيز التنمية البشرية والاقتصادية بدل أن يكون عبئاً، فيمكننا جعله مفترق طرق يدفعنا إلى تغيير النهج التقليدي الذي ينظر إلى النمو السكاني وأعداد الخريجين كأزمة مستعصية على الحل، فبدل أن تكون هذه الأعداد عبئًا على الحكومة والموازنة الوطنية لماذا لا نحولها إلى فرصة استثمارية من خلال إنشاء مشروع وطني طموح؟
مشروع حقيقي يبدًا بحل المشكلة و يعكس ذلك على جودة المجتمع من خلال الدمج بين خبرات هؤلاء الخريجين أيًا كانت تخصصاتهم وبين التكنولوجيا الحديثة وخاصة الذكاء الاصطناعي، الذي يمكّننا من تطوير نموذج يعمل على تحويل هذه الخبرات إلى أدوات فعّالة تقدم خدمات نوعية للمجتمع و للاقتصاد الوطني و للعالم أجمع، من خلال هذا الدمج لا نكتفي بحل أزمة البطالة محليًا، بل نجعل من هذا الجيل نافذة مشرفة على السوق العالمية قادرة على المنافسة والإبداع.
يمكن لهذا المشروع الوطني أن يعمل على تحويل الخريجين من باحثين عن الوظائف إلى رواد أعمال رقميين يساهمون في تقديم خدمات مبتكرة تناسب متطلبات السوق العالمي، سواء في مجالات البرمجة، التصميم، التحليل الرقمي، أو حتى التعليم الإلكتروني و كافة المجالات الأخرى، الأمر الذي يمكن لهؤلاء الشباب من خلاله أن يصبحوا مصدر دخل للحكومات بدل أن يكونوا عبئاً عليها، كما أن تحويل هذه الطاقات إلى إنتاج فعّال يساهم في تحقيق فائض في الموازنة الوطنية، فبدل الاعتماد على القطاعات التقليدية كالزراعة أو الصناعة فقط، يمكننا تنويع مصادر الدخل من خلال دمج الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، وهذا لن يؤدي فقط إلى تحسين الوضع الاقتصادي، بل سيخلق ثقافة جديدة تضعنا على خارطة الابتكار والتكنولوجيا عالميًا، بهذا الشكل تتحول الأزمة إلى فرصة والمشكلة إلى حل مستدام يفتح آفاقًا جديدة لجيل كامل لا يعتمد على الوظائف التقليدية، بل يصنع مستقبله بيديه، ويقدم حلولًا عملية لاقتصاد أكثر مرونة واستدامة و إنتاجية للاقتصاد الوطني.
ان القوة البشرية المتعلمة التي تعتبر عبئاً اقتصادياً وطنيا اليوم و استخدمنا للذكاء الاصطناعي و التكنولوجيا بشكل صحيح، يمكننا عندها تحويلهم من مجرد أداة تستنزف الاقتصاد و الموازنة إلى أداة فعّالة للتمكين والإبداع، فالتكنولوجيا التي يخشاها البعض كبديل عن الإنسان يمكنها أن تكون الحليف الأقوى له، إذا ما استُخدمت بحكمة وذكاء من خلال مشاريع صغيرة منخفضة التكلفة تعتمد على هذه التكنولوجيا، التي يمكننا من خلالها فتح آفاق واسعة للشباب للدخول إلى السوق العالمي، ليس كمتلقين أو موظفين تقليديين، بل كصنّاع تغيير ومبدعين قادرين على المنافسة والابتكار.
إن المشروع الوطني الذي أنادي به, ليس مجرد مبادرة اقتصادية أو خطة تنموية مؤقتة، بل هو تحرك فلسفي حقيقي يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والعمل، وبين الفرد والمجتمع، إنه دعوة لإعادة التفكير في المفاهيم التقليدية التي شكلت حياتنا لعقود وتحويلها إلى قوة دفع نحو المستقبل في عالم يشهد تغيرات متسارعة، من الأتمتة إلى العولمة الرقمية، فبات من الضروري أن يتحرر الإنسان من قيود المفاهيم القديمة التي حصرت قيمته في وظيفة تقليدية أو دور محدود.
أن تحرير الإنسان من فكرة الوظيفة كضرورة وجودية هو الأساس لهذا المشروع، فلا يجب على الإنسان أن يكون موظفًا ليحقق قيمته أو دوره في الحياة بل يمكنه أن يكون مبتكرًا خالقًا لفرص جديدة، ومساهمًا في مجتمعه بطرق أكثر حرية واستقلالًا ، فالوظيفة التقليدية لم تعد تمثل الطريق الوحيد لتحقيق الذات، بل أصبحت عائقًا أمام إطلاق الطاقات الكامنة لدى الأفراد و مشكلة لا حلول حقيقية لها أمام الحكومات.
أما السوق العالمي، الذي كان لسنوات طويلة مكانًا ماديًا يُحتكر فيه النجاح من قبل قلة محظوظة، فقد أصبح اليوم قرية صغيرة بفضل الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، ان السوق لم يعد مرتبطًا بالجغرافيا، بل أصبح فضاءً مفتوحًا يمكن لأي شخص دخوله و المساهمة فيه، إن هذا المشروع الوطني يسعى لتمكين الشباب من تقديم خدماتهم ومواهبهم للعالم بأسره، مما يجعلهم جزءًا من اقتصاد رقمي عالمي، قادرين على المنافسة وتوسيع دائرة تأثيرهم إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية.
هذا التحول لا يمثل مجرد استجابة لأزمة البطالة أو العجز الاقتصادي، بل هو قفزة نوعية نحو عصر جديد يعيد للإنسان دوره الإبداعي في المجتمع، فالذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للإنسانية، بل هو امتداد لعبقريتها، وأداة لتحقيق رؤى جديدة وأحلام أجيال لم تولد بعد، من خلال هذا المشروع يمكننا تحويل التحديات التي نواجهها اليوم إلى فرص غير محدودة وتقديم نموذج جديد للعالم يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والعمل، ويفتح آفاقًا لا حدود لها لمستقبل أكثر إشراقًا.
الايبي : 79.173.200.179
الريفيرال :
https://www.sarayanews.com/mobile/
اخر عملية : لم تتم اي عملية
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
25-02-2025 04:35 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |