26-02-2025 10:14 AM
بقلم : الماحامية هبة ابو وردة
بين قادة يُولدون من رحم الثورات، وآخرون يصنعهم الصندوق الانتخابي، وغيرهم يأتون على صهوة الانقلابات، لكن ثمّة فئة نادرة يظهرون في لحظات الفراغ التاريخي، حيث تتهاوى الأنظمة دون أن تولد بدائل مكتملة، وحيث يكون المطلوب ليس قائداً لمشروع طويل الأمد، بل رئيسا يقف عند خط التماس بين ما كان وما سيكون فإننا بصدد الحديث عن “رؤساء المرحلة الانتقالية”؛ أولئك الذين تتكثف في وجوههم التناقضات، بين الشرعية الناقصة والسلطة المطلقة، بين الحاجة إليهم والخوف منهم، بين كونهم مجرد جسور مؤقتة وبين احتمالية أن يتحولوا إلى ركائز دائمة، قد يعتبره البعض مدير للأزمة، وآخرون يرونه ظل لسلطة لم تتبلور بعد، إلا أن هناك من يعتقد أنه قائد بمواصفات مكتملة، جميعها احتمالات؛ اذ يبقى اليقين الوحيد أنه قائد في مرحلة زمنية لا تتسم باليقين، جميع التوقعات ممكنة؛ فإما أن يعيد صياغة المستقبل، واما ان يعاد تكرار الماضي.
حين يقال ان بلد ما في مرحلة انتقالية، يقصد انها على جسر عبور هش محاط بالمتاهات، بين مرحلة انهيار انتهت، ومرحلة ولادة جديدة، لكن فرصة عبور هذا الجسر مرهونة بمدى كفاءة "رئيس المرحلة الانتقالية" فيها، فهو الآن أقرب ما يكون الى “ضابط إيقاع” في سيمفونية لم يُحدد بعد شكلها النهائي، إلا أن الرهان على كفاءته لا يمكن أن يترك مطلقا؛ فالشعوب و البلاد ليست محلا للرهانات طويلة الأمد، لذلك فهو يحكم بسقفٍ زمني محدد "رئيسٌ محكومٌ بساعةٍ رملية"، فهو بسباق مع الزمن؛ لأن الوقت لن يرحمه، وقد تبتلعه دوامة التغيير في أي لحظة تباطؤ أو تراخي، لكنه أيضا لا يستطيع أن يتصرف وكأن الطريق قد مُهد له بالكامل، فالوقت هو أول تحدٍ يواجهه، أن يعبر دون أن تغرق قدماه في وحل التسرع أو الاستعجال.
يُولدون رؤساء المراحل الانتقالية عادةً من رحمين متناقضتين، إما من رحم التكنوقراطيين بلا جذور أيديولوجية واضحة، وهؤلاء قد ينجحون في الإدارة، لكنهم قد يفتقرون إلى القدرة على بناء شرعية سياسية طويلة الأمد، أو من رحم الشخصياتٍ السياسية التي خرجت من قلب الصراع، لكن تم اختيارهم لأنهم يمثلون “الحل الوسط” بين أطراف متنازعة، بلا مشروعا واضحا للمستقبل، وهؤلاء قد يكونوا مجرد حلّ مؤقت، لكنهم يظلون عالقون بين ضغط القوى التي جاءت به وصراعات الداخل التي لا تنتظر.
على الرغم من أن "رئيس المرحلة الانتقالية" ينظر اليه على انه رئيس بلا مستقبل سياسي مضمون إلا أن بعضهم تمكن من تحويل فترته القصيرة إلى بداية عهدٍ جديد، تماما كما حصل مع شارل ديغول رئيس انتقالي في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي فيما بعد ليؤسس الجمهورية الخامسة، أيضا نيلسون مانديلا الزعيم انتقالي الأفريقي "جنوب أفريقيا"، والذي سرعان ما تحول إلى رمزٍ أبدي للتحول السياسي، و في البلاد العربية كان لمصر وتونس، أنظمة انتقالية كثيرة، لكن القليل منها تمكن من إنتاج قيادة طويلة الأمد، فالمسألة لا يحكمها طبيعة المرحلة فقط، بل في قدرة الرئيس نفسه على تحويل المؤقت الى دائم ، العبور إلى تأسيس، فهو يسير فوق حبلٍ مشدود، حيث أي خطوة خاطئة قد تُسقطه، وأي خطوة مدروسة قد تضعه في سجل التاريخ.
حين سقط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، لم يكن انهياره مجرد مشهد سياسي، بل زلزالا أطاح بمعادلات رسمت لعقود، ومع انهيار ذاك القصر الذي حمل بين جدرانه أسرار الحكم والتسلط والخوف برز اسم احمد الشرع كرقم لم يكن مألوفا في معادلة السلطة التقليدية، لا هو ابن النظام، ولا هو رجل المعارضة الحادة، وُلد من رحم منطقة رمادية، حيث لا تصنع الثورات، بل يُعاد تدوير السلطة، هكذا أطل أحمد الشرع على المشهد السوري، لا كرقم عابر في دفتر السياسة، بل كرجل في قلب العاصفة، مكلفا بإدارة ما تبقى من سوريا، أو ربما، بإعادة تكوينها من جديد، ربما لم يكن وصول الشرع إلى الحكم وليد لحظة داخلية بحتة، بل نتاج ترتيبات دولية وإقليمية أرادت أن ترسم لسوريا طريقا بعيدا عن المتطرفين، لا عودة الأسدية، ولا سقوط في فراغ الفوضى.
لم يكن الطريق إلى السلطة في دمشق يوما معبدا بالورود، بل كان دربا وعرا، إرثا من الانقسام، مدن أُفرغت من سكانها، وحدود اخترقتها الجماعات العابرة، واقتصاد لا يزال يترنح بين العقوبات الدولية والسوق السوداء، لا يقطعه إلا من امتلك مناورات الثعلب وصبر الجبال، ولعل صعود أحمد الشرع إلى سدّة الحكم لم يكن مجرد انتقال من شخصية تكنوقراطية إلى رجل دولة، بل كان انعكاسا لعصر قرر أن يطوي صفحاته القديمة، ولو على جثث أحلام لم يكتمل نضجها بعد.
فاليوم، يقف أحمد الشرع ”رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا”، على جسر الانتقالية الهش، خطوة واحدة خاطئة في طريق التحول إلى طاغية جديد ستسقطه، وتجعله فصل آخر في كتاب لم يكتب له أن يغلق بعد، أو خطوة مدروسة يضبط بها الفوضى تضعه في سجل التاريخ، بإحدى الصورتين، الاولى رجل اكتفى بإدارة الأزمة، وخرج من المشهد كما دخل إليه، والثانية رجل يحاول خلق “شرعية جديدة”، لكنه بذلك يغامر بمواجهة القوى التي جاءت به أصلاً.
أهم ما يجب أن يلتفت له الشرع، أن الصورة النظرية تقول ان النظام السوري القديم قدم انتهى، لكن الصورة الواقعية لها رأي مختلف يكمن في أن اسقاط النظام القديم بالكامل ليس خيارا واقعيا الان، وان محاولة تفكيك الإرث السوري القديم هي محاولة فعلية لإسقاط البلد في حفرة انهدام جديدة؛ فما يطلب من الشرع اليوم هو الموازنة الفعلية بين الصورتين، فالخطابات في موقعه لا تسمن ولا تغني من جوع، القوى الداخلية و الخارجية المحيطة، تبحث عن استقرار قابل للإدارة في محورين رئيسيين، الامن و الاقتصاد.
في المحور الأول .. الشرع كأي "رئيس مرحلة انتقالية" لن يبقى لعام واحد، ان لم يستطيع إحكام قبضته على مِفصل الأمن، وهنا نعود لامكانية الموازنة بين الصورتين؛ أي هل من الممكن أن بناء اجهزة أمنية جديدة في سوريا دون الارتكاز على أساسات النظام القديم؟ ايضا هل يملك القوة اللازمة لإضعاف نفوذ الميليشيات والقوى الموازية بعيدا عن المواجهة المباشرة، لانها لا محال ستطيح باستقراره؟
أما في المحور الثاني .. سوريا ليست في مرحلة انتقالية من ناحية شرعية فقط، لا! هي في مرحلة انتقالية شمولية، الدمار في شتى المجالات، ولإعادة إعمار سوريا الجديدة هي بحاجة لأموال، تحدٍ آخر، يضع الشرع بين خيارات جميعها فخ؛ فإما فرصة إعادة إعمار، وإيقاع سوريا في فخ الاجندات الخارجية و شروط الممول، التي لن تحمد عقباها، او فخ الديون، لتصبح رهينة إلى أن يشاء الله، فالقوى الكبرى، التي باركت صعوده ضمنيا، لن تمنحه شيكا على بياض، ربما يستطيع خلق فرص للمناورات، او ايجاد حلول، لكن أي خطأ صغير في الحسابات اليوم سيعيد سوريا الى نقطة الصفر، لا بل الى السالب محملة بديون مالية و سياسية باهظة.
وكما في جميع الأنظمة السياسية التي تمر بمراحل انتقالية، الشرع له دور حساس، بين المطرقة الدولية وسندان الداخل؛ قدرته على تثبيت الاستقرار الداخلي، وبناء الاعتراف الدولي بشرعيته، نعم اليوم هو بطبيعة الحال جزء من المعادلة الدولية، لكن لم تحسم بعد مسألة قبول المجتمع الدولي له، فمن الناحية القانونية، الاعتراف بمنصب كهذا لا يأتي تلقائيا، أو بموجب الشرعية الشعبة، بل نتيجة متوقفة على القبول الداخلي و التفاعل الدولي، فالاختبار أمامه مزدوج فعليا، قوته في فرض سلطته من جهة، ومدى وإمكانية أن يفرض موقعه في المجتمع الدولي من جهة اخرى، فهو محكوم بتوازنات إقليمية ودولية تفرض عليه خيارات دقيقة، في ظل أن علاقة سوريا مع الخارج تقف على حافة هاوية يسندها جدار متصدع مع بعض الدول، و منهارة مع الاخرى، هل سيرفع العزل عن سوريا دون تقديم تنازلات قاتلة؟ هل سترفع العقوبات؟ هل سيقبله المجتمع الدولي كقائد تحولات؟ اعتقد انه يدرك تمام ان سوريا لن تقبل عالميا كما هي .. وما يحمل في جعبته من حلول سيخبرنا عنها لوقت.
في المشهد السوري، لا تتحرك السياسة الخارجية وفق خطوط مستقيمة، بل تتشابك كخيوط العنكبوت، حيث تتداخل المصالح، وتتقاطع التحالفات، وتتناقض الشرعيات، فكل موقف يُتخذ في هذا الملف ليس مجرد قرار، بل هو حركة في رقعة دولية، كل خطوة محسوبة، وكل كلمة ميزان بين الممكن والمستحيل، فالشرع اليوم يتحرك في ساحة لا يراد لسوريا أن تكون فيها لاعبا متكافئا، رغما أن الناحية النظرية تفرض على القانون الدولي أن يكون الحكم العادل في النزاعات، وتُرسي قواعده التوازنات.
لكنه في الشأن السوري، بدا كأنه يستخدم قواعده حين تناسب الاطراف الاقوى، وكأن سيادتها مرهونة بقرارات تصدر من العواصم الكبرى، وحين يُناقش التدخل الأجنبي، يُسمح لقوى بعينها بأن تتدخل تحت عناوين إنسانية أو أمنية، بينما يُمنع على الدولة السورية أن تمارس حقها في استعادة أراضيها، الواقع يقول إن الشرع في معركة مزدوجة اضافية، من جهة، عليه أن يناور داخل الإطار القانوني الدولي، رغم إدراكه أنه ليس إطارا محايدا، ومن جهة أخرى، عليه أن يُعيد تعريف الشرعية السورية، لا وفق ما تمليه العواصم الكبرى، بل وفق ما يفرضه الشعب والأرض.
الشرع، يدرك مدى حساسية خطوة القبول الدولي، لذلك اتجه أولا إلى السعي نحو العودة الى الحاضنة العربية، للاستفادة من الدعم العربي وإعادة التموضع، لكن لا يخلو هذا الشأن أيضا من تحديات خانقة، ما هو ثمن هذه العودة؟ هل سيخضع سوريا للتبعية؟ هل سيثير المواجهة مع قوى اخرى على اثر هذه العودة؟ لا إجابات واضحة اليوم، لكنه شرع في بدأ اللقاءات الدبلوماسية لإيجاد ملامح الخطة، وإعطاء إشارة واضحة إلى أن سوريا الجديدة لا تنوي البقاء ضمن العزلة التي فُرضت عليها لسنوات، بل تبحث عن إعادة تموضع إقليمي يوازن بين مصالحها الاستراتيجية ومتطلبات القبول الدولي، بدأ جولته من الرياض، وأنقرة، و الان الى عمّان، تمهيدا للقاهرة، حيث تلقى الشرع دعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحضور القمة العربية الطارئة المقبلة، مما يعكس الرغبة العربية في إعادة إدماج دمشق في المنظومة الإقليمية.
في خطوة دبلوماسية تعكس تحولات المشهد السياسي في المنطقة، اليوم رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، يحط الرحال في المملكة الهاشمية الاردنية، في زيارة، تتجاوز حدود البروتوكول إلى حيث تصاغ التفاهمات وترسم الخرائط، وتمحى الخطوط القديمة، في مرحلة الانتقال بين من إنهار مع آخر أنقاض قصر المهاجرين، وآخر يراد له أن يكون جسراً نحو المستقبل، فلا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليدرك، أن العلاقات بين الأردن وسوريا في المرحلة الأخيرة، لم تكن تسير في خط مستقيما، بل كانت أشبه بنهر متعرج، تارة يفيض، وطورا ينحسر، وفقا لما تمليه جغرافيا السياسة أكثر مما تمليه الجغرافيا ذاتها، فالحد الفاصل بين الأردن وسوريا أكثر من مجرد حدود، بل جدارا رمليا كان يفصل بين رؤى متباينة لأنظمة الحكم، ومدرسة سياسية تقوم على التوازن مقابل أخرى قائمة على الصدام، إلا أن سقوط النظام السابق وبدء مرحلة انتقالية جديدة في سوريا فتح الباب أمام فرص جديدة للتعاون، وهو ما تسعى القيادة في كلا البلدين إلى ترسيخه من خلال هذه الزيارة كخطوة دبلوماسية تعكس تحولات المشهد السياسي في المنطقة، وتعزز الشراكة بين دول الجوار لمواجهة التحديات المشتركة، وعلى رأسها قضايا أمن الحدود، ومكافحة الإرهاب، ووقف تدفق المخدرات والأسلحة عبر الحدود، وهو ملف يعد أولوية بالنسبة للأردن.
واليوم إذ يجلس الشرع والملك عبد الله الثاني وجها لوجه، فالحديث سيكون باسم حقبتين، الأولى أقفلت أبوابها برحيل الأسد عن المشهد، والثانية تتلمّس طريقها وسط ركام الماضي، فالأردن ينظر اليوم إلى دمشق كجبهة لا يمكن تجاهلها، لكنها أيضا لا يمكن احتضانها دون حذر، لا يريد أن يرى سوريا غارقة في الفوضى، لكنه أيضا لا يريد أن يكون حَجر التوازن الذي يميل به الميزان نحو طرف لا يمكن التحكم في نتائجه، كيف يُدير ملف الشرع دون أن يُغضب الحلفاء؟ وكيف يُبقي على جسور الحوار دون أن يتحول إلى رافعة لمعادلة جديدة قد تُربك حساباته؟
هناك على الطاولة، في قصر الحسينية، حيث تتداخل المصالح وتتصارع الأولويات، تتزاحم ملفات مشتركة، لا تقبل التسويف أو التأجيل، عن أرقام وممرات وتحالفات…
بدءا من أمن الحدود المشتركة، لطالما شكلت الحدود الشمالية للأردن صداعا أمنيا، مع تصاعد موجات تهريب المخدرات والسلاح، والتي كانت إحدى أعتى المواجهات غير المعلنة، مع شبكات عابرة للحدود لها امتدادات داخل النظام السوري السابق، بل وأحيانا داخل ميليشيات متنفذة، والآن بين دفاتر الشرع ومحاضر المخابرات الأردنية، ربما ترسم خريطة أمنية جديدة، تعيد تشكيل قواعد الاشتباك على هذه الجبهة المضطربة! وربما يتم توقيع اتفاقية امنية جديدة لتعزيز التنسيق المشترك!
مرورا بإعادة الإعمار، حيث يدرك الجميع أن سوريا الجديدة لا يمكنها النهوض دون مدّ يدها إلى الخارج، فهي خارجة من حرب مدمرة بحاجة إلى إعادة إعمار هائلة، والأردن بوابة مفتاحية في هذا الملف، سواء عبر دوره اللوجستي أو من خلال استثمارات محتملة يمكن أن تكون ورقة رابحة في المفاوضات، لكنّ الدعم له ثمن، ولا يُعطى بلا مقابل، فهل يستطيع الشرع تقديم ضمانات كافية لمن يودون الرهان على دمشق؟، هل سيقدم بيئة مستقرة، أنه ليس امتدادا لمراكز القوى القديمة التي أجهضت أي محاولة لإعادة إعمار سوريا خلال العقد الماضي؟
وليس انتهاء بملف اللاجئين، حيث تتشابك الاعتبارات الإنسانية بالمعطيات الأمنية والسياسية، فهو الملف الاكثر تعقيدا، الحديث عن مسألة عودة اللاجئين السوريين في الأردن، حيث يشكل السوريون في الأردن رقماً صعباً في المعادلة الاجتماعية والاقتصادية، دمشق تسعى إلى استعادة رعاياها، لكن عودتهم تشكل معضلة ذات أبعاد أمنية واقتصادية واجتماعية، لكن العودة لا يجب أن تكون مجرد قرار يُتخذ، بل ضمانات تُقدم، وحوافز تُطرح، بأنهم لن يعودوا إلى بيئة انتقامية أو إلى مشهد لا يوفر لهم أدنى مقومات الحياة الكريمة، فأكثر من مليون لاجئ، يريد حلولا واقعية، لا خطابات إنشائية، فهل تمتلك القيادة الجديدة في دمشق القدرة على تحويل هذه الرغبة إلى واقع؟
لكن المحور الأهم قد لا يكون في التفاصيل التقنية لهذه الملفات بقدر ما هو في السؤال الجوهري: إلى أي مدى يمكن الوثوق بأن سوريا ما بعد الأسد قادرة على الالتزام بتعهداتها؟
طرح هذا المحور هو انعكاس لصراع عميق بين المصالح والمخاوف، بين الرهانات والشكوك، وبين الحاجة إلى سوريا جديدة والخشية من أن تكون مجرد امتداد مقنّع لنظام قديم بأسماء مختلف، فالأردن وهو يدير هذه المرحلة بعقلانية سياسية، لن يكون مستعدا لمنح الشرعية على بياض، وسوريا، التي تحاول شق طريقها في مرحلة ما بعد الأسد، لا تملك ترف خسارة حلفاء إقليميين كانوا يوما ما في صفوف الداعمين لحل سياسي لم يتحقق إلا بانهيار المعادلة القديمة بأكملها.
لذلك، لا يتوقع أن يكون البيان المشترك بعد اللقاء مجرد إعلان نوايا دبلوماسي، بل إشارة إلى أي طريق ستسلكه عمان مع دمشق، وما إن كان الباب سيفتح تدريجيا، أم أنه سيبقى نصف موارب، انتظارا للمرحلة التالية… فالسياسة الأردنية بامتياز، هي سياسة “التوازنات الحرجة”، لا يمكن لعمان أن تجاهر بعداء أي طرف دون أن تدفع الثمن، ولا يمكنها أن تعلن ولاء مطلقا دون أن تخسر قدرتها على المناورة، الملك عبد الله الثاني، بحكمته، يُدرك أن البقاء في المنتصف في مثل هذه المواقف، ليس ضعفا، بل مهارة.
فالعلاقة بين الأردن وسوريا ليست قصة تحالف استراتيجي، لكنها أيضا ليست مجرد علاقة عابرة، إنها علاقة الضرورة التي لا تستطيع أن تصبح ودا مطلقا، لكنها أيضا لا تستطيع أن تتحول إلى قطيعة مستدامة، فالأردن يدرك أن استقرار حدوده الشمالية لا يتحقق إلا باستقرار دمشق، لكنه أيضًا يعلم أن أي دعم غير محسوب قد يفتح عليه أبوابا لا يريدها، وسوريا تدرك أن عمان ليست مجرد جار صامت، بل هي لاعب إقليمي يعرف كيف يتحرك في المساحات الرمادية، وكيف يزن خياراته دون أن يغلق الأبواب بالكامل، إنها علاقة تشبه الوقوف على الحد الفاصل بين الرمال المتحركة والأرض الصلبة، حيث لا يمكن الركض بسرعة دون المخاطرة، ولا يمكن التوقف طويلاً دون فقدان القدرة على المناورة.
من جهة اخرى …
خطوة "رئيس المرحلة الانتقالية"، خارج حدود دولته، في وقت مبكر، تتحول تلقائيا الى بارومتر لقياس مدى اندماجه مع النظام الدولي، بتفصيل أعمق هو اختبار لقياس عناصر السيادة والشرعية والاعتراف، وخطوة كهذه من الشرع تضعه في اختبار تاريخي، حيث تتحول رحلاته الخارجية إلى استفتاء سياسي غير معلن، يحدد ما إذا كان فاعلا حقيقيا في المشهد الدولي، أم مجرد ظل لكيان لم تكتمل ملامحه بعد.
حيث ان القانون الدولي، لا ينص على أي قاعدة تمنح أو تمنع الزيارات الدبلوماسية في هذه المرحلة، لكنه يقف من بعيد ينظر ويراقب، ويفسر وفقا للأعراف الدبلوماسية؛ لأن عالم السياسة، لا يعتبر رئاسة المرحلة الانتقالية مجرد منصب، بل هي حالة سياسية ملتبسة، تقع في منطقة رمادية بين “التكليف المؤقت” و”الاعتراف المتدرج”، بين المشروعية التي تُنتزع داخليا، والشرعية التي تُمنح خارجيا بشروط.
وهنا تتداخل السياسة بالقانون، حيث لا يكون الاعتراف الدولي مجرد مسألة شكلية، بل هو أشبه بختم وجود يُمنح بجرعات محسوبة، وفقًا لحسابات دقيقة تحدد ما إذا كان هذا “القائد المؤقت” يستطيع أن يتحول إلى “قائد دائم” أم لا، ففي السياسة الدولية، لا تحكم القوانين وحدها المشهد، بل تفرض القوة أحيانا قوانينها الخاصة، فكما أن السيادة ليست مجرد إعلان، بل تحتاج إلى من يحميها ويفرضها، كذلك الشرعية ليست مجرد نصوص، بل تكتسب عبر الأفعال والوقائع على الأرض.
وبما أن الصمت في القانون الدولي، قد يكون أبلغ من التصريح، فحين تفتح دولة ما أبوابها لرئيس انتقالي، دون منح اعتراف رسمي كامل، فإنها تترك مسافة رمادية بين “الاعتراف الضمني” و”الحياد الاستراتيجي”، والأردن بحكم موقعه الجيوسياسي، يمثل نقطة توازن في ميزان القوى الإقليمية، ويملك القدرة على منح أو حجب اعتراف ضمني بشخصيات سياسية تمثل مرحلة انتقالية.
إلا أنها كدولة محكومة بحسابات دقيقة، قد تتعامل مع مثل هذه الزيارة كفرصة لترسيخ دورها كوسيط إقليمي، دون أن تغرق في مستنقع الاعتراف الكامل أو الرفض القاطع، والقيادة الهاشمية الحكيمة، سيدير هذه المرحلة بعقلانية سياسية، لن تكون مستعدة لمنح الشرعية على بياض، فاليوم وهو يفتح أبوابه للشرع، في ظل الوضع الراهن، يقتضي ألا يفعل ذلك من باب الدعم المفتوح، بل من باب التحسس الدقيق لحدود الممكن، حيث كل خطوة تحسب مرتين، وكل تصريح يقاس بمدى انعكاسه على حلفاء الأردن التقليديين.
رغم إن مجرد استقبال رئيس انتقالي في عاصمة إقليمية له دلالاته العميقة، فهو بمثابة قبول ضمني بموقعه، لكنه في الوقت ذاته ليس تعهدا نهائيا بمستقبله، إنه أشبه ببطاقة عبور مؤقتة، يسمح لحاملها بالدخول إلى المشهد الدولي، و الجلوس على طاولته، لكن من دون ضمانات الإقامة الدائمة فيه، ولا مقعدا ثابتا على طاولته، حيث يبقيه في منطقة التفاعل المشروط، كنوع من التوازن الذي يعكس فلسفة القانون الدولي نفسه، حيث لا توجد أحكام نهائية، بل مواقف تتغير مع الزمن.
ففي السياسة، ليست كل زيارة بداية شراكة، كما أن ليست كل مصافحة إعلان تحالف، حين يغادر الشرع، ويغلق باب القصر الحسينية، سيبدأ المشهد الحقيقي …
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-02-2025 10:14 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |