حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,3 مارس, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 2713

سعيد ذياب سليم يكتب: بابُ الرَّيَّانِ

سعيد ذياب سليم يكتب: بابُ الرَّيَّانِ

سعيد ذياب سليم يكتب: بابُ الرَّيَّانِ

02-03-2025 10:50 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : سعيد ذياب سليم

ماذا لو غاب عنك عزيزٌ لسنة، ثم جاءك بعد هذا الفراق؟ ما تراك فاعلًا عند لقائه؟ ما السيناريوهات التي ستستقبله بها؟ أراك تحتفل به، تهتمُّ لأمره، وتعوِّض كلَّ ثانية غاب فيها عنك! لَمُّ الشملِ بعد عامٍ من الانفصال تجربةٌ عاطفيةٌ مميزةٌ، والمفتاحُ لها هو الحبُّ والصبرُ والقلبُ المفتوح. فكيف إذا كان الغائبُ رمضان، وقد أظلَّنا اليومَ هذا الشهرُ العظيم؟ هل فكرتَ في كيفية تهيئة بَيتِك وروحكَ لهذا الضيف الكريم؟ هل شاركتَ ربَّةَ البيت، وأمليتَ عليها قائمةَ ما تحب أن تراه وتتناوله على مائدة الإفطار؟ هل وضعتَ برنامجًا لرياضة روحك، من ذِكرٍ وتلاوةٍ ونافلةٍ، وصدقاتٍ لا تعلم فيها شمالُك ما أنفقت يمينُك؟
يأتي رمضانُ لِيَنتَشِلَنا مِن دَوَّامَةِ النَّمَطِيَّةِ الَّتِي أَلِفْنَاهَا، وَيُحَرِّرَنَا مِن رُوتِينَ الحَيَاةِ اليَومِيَّةِ الَّذِي تَسَلَّلَ إِلَيْهِ السَّأَمُ وَخَيَّمَ عَلَيهِ المَلَلُ. لَكِنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ، بَلْ يَدْعُونَا إِلَى إِعَادَةِ النَّظَرِ فِي عَلَاقَتِنَا مَعَ ذَوَاتِنَا، لِنَخْتَبِرَ عُمْقَ قُدْرَتِنَا عَلَى التَّحَمُّلِ وَالتَّقْدِيرِ. إِنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ امْتِنَاعٍ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ رِحْلَةٌ إِلَى أَعْمَاقِ النَّفْسِ، نُعِيدُ خِلَالَهَا اكْتِشَافَ قِيمَةِ النِّعَمِ الَّتِي اعْتَدْنَاهَا. نَصْبِرُ عَلَى الجُوعِ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً، فَنَتَذَوَّقُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ كَأَنَّنَا نَخْتَبِرُهُمَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَيُعِيدُ لِلحَيَاةِ بَهَاءَهَا وَجِدَّتَهَا، وَاضِعًا إِيَّانَا فِي تَجْرِبَةٍ تُقَرِّبُنَا مِنْ مَعَانَاةِ الفُقَرَاءِ وَالمُهَاجِرِينَ فِي مُخَيَّمَاتِ الشَّتَاتِ حَوْلَ العَالَمِ.
لَكِنْ، هَلْ لَاحَظْتَ أَنَّ اسْتِقْبَالَكَ لَهُ يَتَغَيَّرُ كُلَّ عَامٍ؟ هَكَذَا هِيَ الحَيَاةُ، يَا صَدِيقِي! قَدْ لَا تَسْتَقْبِلُهُ بِالحَمَاسِ ذَاتِهِ الَّذِي كُنتَ تَشُدُّ فِيهِ مِئْزَرَكَ لِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ، وَتَغْمُرُكَ طُقُوسُ العِبَادَةِ بِحَيَوِيَّتِهَا. رُبَّمَا لَمْ يَعُدْ جَسَدُكَ بِقُوَّتِهِ المَعْهُودَةِ، فَأَنْتَ اليَومَ تَسْتَقْبِلُهُ اسْتِقْبَالَ الصَّدِيقِ الَّذِي يَعْرِفُ أَسْرَارَكَ وَنِقَاطَ ضَعْفِكَ، تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْنِ حَزِينَتَيْنِ، فَيُرَبِّتُ عَلَى كَتِفِكَ مُتَفَهِّمًا. رُبَّمَا تَبْحَثُ فِي آيَاتِ الصِّيَامِ عَنْ رُخَصٍ وَأَعْذَارٍ، أَتُرَاكَ تَفْتَقِدُ فِنْجَانَ قَهْوَتِكَ الصَّبَاحِيَّ؟ وَتَشْعُرُ بِدُوَارِ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، أَوْ يُفْقِدُكَ أَحَدُهُمْ أَعْصَابَكَ بَعْدَ أَنْ وَقَفْتَ فِي الدَّوْرِ طَوِيلًا لِصَرْفِ الدَّوَاءِ، فَاكْتَشَفْتَ أَنَّكَ فِي المَكَانِ الخَطَأ؟... هَوِّنْ عَلَيْكَ، يَا صَاحِبِي! إِنْ كَانَ الجُوعُ قَدْ أَنْهَككَ، أَوِ الإِرْهَاقُ قَدْ نَالَ مِنْكَ، فَتَذَكَّرْ أَنَّ رَمَضَانَ يُعِيدُ تَرْتِيبَ إِيقَاعِ الحَيَاةِ، كَاشِفًا لَنَا أَبْعَادًا جَدِيدَةً لَمْ نَكُنْ نَلْتَفِتْ إِلَيْهَا وَسْطَ زِحَامِ العَادَةِ.
نختبر خلاله شوْقَنا للأشياء التي حُرِمْنا منها مؤقتًا، ونستلهم معانيَ الجدوى من الحياة، فنُقبل على ملذَّاتها وفق شرع الله الذي يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور.
في هذا الشهر، نتعلَّم كيف نوازن بين حاجات الجسد وأشواق الروح، ونحافظ على إيقاع الحياة اليومية، ولكن بمعنى أعمق. وربما، بعد انقضائه، ندرك أن رمضان لم يكن ضيفًا علينا، بل كنَّا نحن الضيوفَ في رحلته الروحية، فماذا سنحمل معنا من هذه الرحلة؟
في مسجدنا، يستعد القائمون لاستقبال الضيف الكريم، يستبدلون المصابيحَ القديمةَ بأخرى جديدة، ويُجرون الصيانةَ اللازمةَ للمرافق. أما الإمام، فأتخيَّله يراجع ما يحفظ من آيات، ويهيئ صوتَه للتلاوة، وربما يمضغ قِطعًَا من السكر الفضي ليُحسِّن صوتَه، ويدرِّب أوتار حلقه. لا أستطيع أن أمنع نفسي من استحضار صورة ممثلٍ يؤدي مشهدًا دراميًا بتعبيراتٍ مبالغٍ فيها، وكأن بعضَ الأئمة يتقمَّصون الدور بإفراط، كما لو أن تأثيرَ الخشوعِ يُقاس بحدَّةِ التجويد والانفعالات المصاحبة له.
في رمضان الماضي، دعانا الإمام لصلاة التهجُّد قبل السحور. دخلنا المسجدَ وكانت العتمةُ تلفُّ المكان، إلا من مصباحٍ واحدٍ يقف تحته الإمام. قرر أن يقرأ بنا في صلاة التهجُّد ألف آيةٍ ليجعلنا من المُقَنْطِرِين، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: "من قام بألف آية كُتِب من المُقَنْطِرِي “كنا سعداء بذلك، في الليلة الأولى صلَّى بنا عشرَ ركعات، قرأ فيها سورةَ الواقعةِ في كل ركعة. وعندما بلغ الألف، بكى تأثرًا وبكينا معه. في الليلة التالية، قرأها مرتين في كل ركعة، ثم ثلاث مرات في كل ركعة، كان ذلك قبل العيد بأيامٍ قليلة! حمدنا الله على مقدم العيد وفرحنا به فرحًا شديدًا، لكن ساقيَّ عاقبتاني لأيام.
في نهار رمضان، تتسابق رباتُ البيوتِ لشراء الأواني وأدوات الطبخ، وكأن المطابخَ تعاني من نقصٍ من قبل! وتراهنَّ ينتشرن في الأسواق، يُخيَّل إليك أن الواحدةَ منهن تحوَّلت إلى معدةٍ بقدمين! وعلى المحطات الفضائية، تنطلق عروضُ برامجِ الطبخ من الصباح حتى الغروب، ثم تُعاد في الهزيع الأخير من الليل، بوصفاتٍ تُدهشك، حتى تكاد تشكُّ في أن الشهرَ هو شهرُ صيام! ناهيك عن المسابقات الرمضانية، ومسلسلات السهرة، والبرامج الجماهيرية التي تفيض بالإسفاف، حتى تسأل نفسك: كيف تحررت شياطينُ الفن هذه من عقالها؟
جوهرةُ التاج في رمضان، ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، هي ليلةُ القدر، ننتظرها ونتحرَّاها في الليالي الفردية من الثلث الأخير من الشهر، نخصُّها بالقيامِ والذكرِ والدعاءِ، عسى أن ننال المغفرةَ والرحمةَ والسلام، نسألك اللهم أن توفِّقنا إليها.
الأوقاتُ التي حلَّ فيها رمضانُ خلالَ سنواتِ أعمارِنا، صنعت ما يشبه قطعَ البازل، إذا ما فردتَها على طاولة الذكرى، تراك طفلًا تنتظر مع عصابة الأولاد، انطلاقَ مدفعِ الإفطار، تحدِّق في الأفق حيث يربضُ المدفعُ فوق أحد التلال المطلة على المدينة، فإذا انطلق المدفع، ركضتَ مع الصحب كالعصافير، كلٌّ في اتجاه. تجلس على سفرةِ الإفطار بين والديك، تبدأ بمنقوعِ عرقِ السوس أو الخروب أو غيرها من العصائر، تَبُلُُّ به الريق.
وقطعة ترى فيها ٱلْمُسَحِّرَاتِي يقود حِماره ويضرب دفا صارخا "يا صايم وحّد الدايم"، قبل أن يتحول إلى ساعة رقمية، تُنَبِّهُك وقت السحور بنغمات قصة حب.
قطعةٌ أخرى تراك مستلمًا نتيجةَ الثانويةِ العامةِ صائمًا، وتلك حين كنتَ طالبًا في الجامعة، وأخرى وأنت تركض في ميدانِ التدريب العسكري، ثم تُمعن النظرَ في صورةٍ يتحلَّق حولَك فيها أطفالُك. صورٌ كثيرةٌ ترك فيها رمضانُ لنا ذكرى، وعلى جوارحِنا أثرًا.
الصومُ عبادةٌ نتقرَّب بها إلى الله، ويستطبُّ به البعضُ في أشكاله المختلفة، من صيامٍ متقطِّعٍ إلى علاجيٍّ، ويمارسونه بدرجاتٍ متفاوتةٍ من القناعاتِ الشخصية، وذلك تحت تأثير إيقاع العصرِ وانفتاحِ الثقافاتِ، كما تنفتح النوافذُ في الحارةِ الواحدة.
. لا بد أنك شعرتَ معي بألوانِ العناءِ التي يُصبغون بها رمضان، وبمقدار الصبرِ الهائلِ الذي تبذله لتخرجَ منه وقد أعتقك الله من النيران، وأصبحتَ ممن سيعبرون بابَ الرَّيَّانِ إلى الجنة.
فهل سنُحسنُ استثمارَ رمضان قبل وداعه؟ وهل سنخرجُ منه وقد تغيَّرنا حقًّا، أم سنودِّعه كما استقبلناه، ننتظر عودتَه بعد عامٍ دون أن يترك فينا أثرًا؟
سعيد ذياب سليم











طباعة
  • المشاهدات: 2713
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
02-03-2025 10:50 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك، هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة رغم مواصلة نتنياهو وترامب تهديد حماس باستئناف الحرب والتهجير؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم