06-03-2025 10:52 AM
بقلم : المحامية هبة ابو وردة
العاصمة الإدارية الجديدة بمصر، قاعة مكتظة بالزعماء، التأم القادة العرب في قمةٍ غير عادية تحت عنوان “دعم فلسطين”، دعا إليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس. سبقها ظلٌّ طويل من الاجتماعات والتحالفات، من عمّان إلى القاهرة، من الرياض إلى الدوحة، علنية أحيانًا وأخرى سرية، حملت العناوين ذاتها، فمهّدت الطريق لقرارات أكثر تماسكًا، تُعيد رسم معادلة الصراع؛ لأن الاحتلال لم يعد يواجه الفلسطينيين وحدهم، بل إرادة عربية تعمل بصمت حين يلزم، وتتحرك بصوتٍ مسموع حين يحين الوقت.
احتضنت مصر القمة بوزنها التاريخي، حيث كانت دومًا ركيزة الفعل العربي في اللحظات الحاسمة، وحضر الملك عبدالله الثاني بثقله السياسي، ذاك الصوت الصلب الذي لم يترجل يومًا عن ميادين الدفاع عن فلسطين، مجددًا موقفه الواضح بأن الوصاية ليست شعارًا، بل التزام لا يقبل المساومة. إلى جانبه، جاء الخليج شريكًا رئيسيًا، لا بالكلمات فحسب، بل بحراك دبلوماسي مكثف عزز الموقف العربي على الساحة الدولية. ومن المغرب العربي، امتدت الأيدي تأكيدًا على وحدة الصف، حيث حضرت الجزائر والمغرب، كلٌ بطريقته، رغم التباينات السياسية، ليجمعهم موقفٌ واحدٌ بأن فلسطين ليست قضية قابلة للمساومة. ومن بلاد الشام، كان الحضور السوري واللبناني تأكيدًا أن المآسي الداخلية لم تنسِ أحدًا أصل الصراع، أما العراق، فحضر ليؤكد أن انشغالاته لن تجعله يغيب عن معادلة الصراع المركزي. بعضهم حضر بشخصه، وبعضهم اختار التمثيل الدبلوماسي، لكن الرسالة كانت واضحة: رغم تباين المواقف، هناك إجماعٌ على أن ما يجري في غزة خاصة وفلسطين عامة تجاوز حدود الاحتمال، وأن السكوت لم يعد خيارًا.
من جهة، كانت هذه القمة محطة في مسار طويل؛ فالاحتلال لا تُسقطه الإدانات وحدها، لكن على الأقل لم تكن القمة لتكرار المعلوم؛ بل سعت إلى تسديد ضربة مباغتة لم تكن في حسبان الاحتلال، من المحاكم الدولية إلى العقوبات الاقتصادية على الشركات الداعمة للاستيطان، ومن توسيع الاعتراف الدولي بفلسطين إلى إدانة جرائم الحرب بشكل ممنهج عبر مجلس الأمن. وعلى الصعيد العربي، لم يقتصر النقاش على المواقف، بل امتد إلى أدوات الفعل، حيث طُرحت مبادرات كتشريع قانون عربي لمكافحة التطبيع، وإنشاء صندوق دعم قانوني لفلسطين، وتأمين الأموال المحتجزة، وتعزيز صلاحيات الجامعة العربية في المتابعة والتنفيذ، للتضييق على الاحتلال أكثر مما اعتاد.
لكن، رغم أن القمة تُثبت أن الموقف العربي لم يمت، الا أن القانون وحده لا يكفي لحماية الحقوق، تمامًا كما لم يكن كافيًا لاستعادة فلسطين طوال العقود الماضية، فالقمم العربية لم تتوقف منذ عقود، حتى كادت تصبح طقسًا سياسيًا دوريًا يُعقد مع كل أزمة، في الرياض 1976، اجتمع القادة لمحاولة إخماد الحرب الأهلية في لبنان، لكنها استمرت لسنوات. في الدار البيضاء 1985، ناقشوا القضية الفلسطينية، لكن الاحتلال تمدد. في بغداد 1990، حذروا من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لكن الاستيطان ازداد، في القاهرة 2000، دعمت القمة انتفاضة الأقصى، لكن الفلسطينيين بقوا وحدهم في المواجهة.
لكن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن الإخفاق لم يكن بسبب ضعف عربي، فحتى القوى العظمى لم تستطع زحزحة هذا الكيان؛ مجلس الأمن الدولي أدان الاحتلال في قراره 242 عام 1967 وطالب إسرائيل بالانسحاب ولم تلتزم، اتفاقيات جنيف جرّمت الاستيطان، لكن الأرض بقيت تُنهب بغطاء من العواصم الكبرى، محكمة العدل الدولية أدانت الجدار العازل عام 2004، لكن الجدار توسّع والإدانة زالت، إسرائيل ليست فوق القانون فحسب، بل كأنها معادلة محصنة ضد العدالة نفسها، وكأن هناك منظومة خفية تُعيد ترتيب الأوراق كلما اقترب أحد من تغيير القواعد.
لم يقتصر الأمر على الإطار القانوني الدولي، بل امتد أحيانًا إلى الدول نفسها، حيث أدانت عدة قوى عظمى إسرائيل في مناسبات مختلفة، فرنسا في الستينيات انتقدت احتلال الأراضي العربية بعد حرب 1967، وقطع شارل ديغول صفقات الأسلحة مع تل أبيب، روسيا (الاتحاد السوفييتي سابقًا) لطالما دعمت قرارات مجلس الأمن التي تدين الاحتلال وأيدت الحقوق الفلسطينية، الصين رغم علاقاتها الاقتصادية المتنامية مع إسرائيل، أيدت قرارات الأمم المتحدة التي تدين الاستيطان، حتى بريطانيا، التي كانت أساسًا في نشأة إسرائيل عبر وعد بلفور، صوتت أحيانًا ضد ممارساتها، كما حدث في قرار مجلس الأمن عام 2016 الذي دان الاستيطان الإسرائيلي، لكن كما هو الحال دائمًا، لم تتجاوز هذه الإدانات حدود الورق، وبقي الاحتلال محصّنًا ضد أي تداعيات حقيقية.
وعلى الرغم من أن التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل هو الثابت الذي لا يتغير، فإن التاريخ شهد لحظات توتر نادرة؛ دوايت أيزنهاور (1956) أجبر إسرائيل على الانسحاب من سيناء بعد أزمة السويس. جورج بوش الأب (1991) هدد بوقف ضمانات القروض بسبب الاستيطان، باراك أوباما (2016) سمح بتمرير قرار مجلس الأمن الذي أدان الاستيطان بعدم استخدام الفيتو، جو بايدن (2023) انتقد حكومة نتنياهو واعتبر بعض سياساتها لا تتماشى مع القيم الديمقراطية، لكن بقي الاحتلال واستمر التوسع، وظلت إسرائيل فوق أي محاسبة، وكأن القرارات الحقيقية لا تُتخذ في البيت الأبيض، إنما في أماكن أخرى خلف الكواليس، حيث تُدار السياسة الدولية بمعايير لا تصل إليها الشعوب.
الرؤية السياسية للمشهد، قد لا تلقى هوىً لدى الكثيرين المأسورون بالمنظور التقليدي، خاصة من ينطق من عمق الجرح، لكن إسرائيل ليست خصمًا يُرهق بالعاطفة، ولا لاعبًا يترك “كتفًا يؤكل منه”، تُحاصره الإدانات ولا يختنق، تُلقى عليه القرارات الأممية كما تُلقى الحجارة على حصن من الفولاذ، فترتد دون أن تُخلّف خدشًا، لذلك المواجهة أمامه ليست صراع شجاعة، بل صراع فهم.
فاستمرار إسرائيل لم يعد سببه المنطقي فقط تفوق عسكري، كما ان اعتبارها مجرد مشروع سياسي لم يعد مجديًا، لا لمجرد التشكيك بأنها تمتلك جيشًا متطورًا، واقتصادًا مدعومًا، او تحالفات دولية تحميها، لكن لأن من يقف وراء إسرائيل هي منظومة معقدة من المصالح السياسية والاقتصادية والاستخباراتية تحرسها أيادٍ لا تظهر في العلن، شبكات نفوذ عابرة للحدود، من اللوبيات الاقتصادية مثل إيباك، إلى مراكز الأبحاث التي تصوغ السياسات، إلى تحالفات معقدة داخل المؤسسات المالية العالمية التي تضمن استمرار إسرائيل كمشروع استراتيجي، الى شبكات النفوذ في الإعلام، المؤسسات المالية الكبرى، شركات السلاح، والاستخبارات التي تدير صراعاتها بما يضمن استمرارها، كأنها رأس جبل جليدي في معادلة تُدار في العتمة، فحتى الدول التي تدعي الحياد، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع إسرائيل كأمر واقع، لأن النظام الدولي مصمم بحيث يكون وجودها جزءًا لا يتجزأ من توازن القوى، فهي عقدة مصالح عالمية، وسقوطها ليس مطروحًا، لأن من يُمسك بخيوط اللعبة لا يسمح بذلك.
فقد آن الأوان أن نترجل عن صهوة الأوهام، ونضع أقدامنا على أرض الواقع، والاعتراف بأن الكيان نقطة ارتكاز في لعبة أكبر، عقدة مصالح عالمية، مصرف استراتيجي تستثمر فيه قوى كبرى، محمي بشبكات نفوذ غير مرئية، اكتشاف من يدفع فاتورة الصمود وتوسع الإسرائيلي، هو نصف الحل، فقد بات واضحا أنه خصم لا يُخدش بالضجيج، لكن يُحاصر بالعقل.
فهمنا لطبيعة تكوين هذا الكيان ونقاط ضعفه والمساحات التي يمكن تطويقه بنفس الأدوات التي تضمن استمراريته، أي عبر معادلة جديدة تُغيّر كلفة استمرار هذا الكيان، فحتى الآن الحسابات تصبّ لصالحه؛ احتلالٌ منخفض التكلفة، مدعومٌ سياسيًا، محصّنٌ عسكريًا، ومموّلٌ اقتصاديًا، لذلك لا يواجه خطرا حقيقيا، لكن بناء منظومة ردع دبلوماسية واقتصادية تحوّل استمراره إلى عبء على داعميه، سيجعله يبدأ بالتراجع.
رغم كل شيء، ستبقى هذه القمة، شاهدًا على أن العرب لم يستسلموا، وأنهم اليوم أكثر من أي وقت مضى يدركون أن هذه المعركة لا تخاض بالخطابات ولا بالجيوش، بل ببناء شبكة نفوذ تمتد إلى ما وراء الكواليس، باقتصاد مخفي، وتحالفات سرية، وقوة لا تُرى لكنها تتحكم في الواقع؛ لأن في السياسة لا يهزم العدو برفض منطقه، بل باتقانه والاشتباك معه بأدواته.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
06-03-2025 10:52 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |