15-03-2025 10:26 AM
بقلم : د. أحلام ناصر
يُعدُّ الطلاق العاطفي أحد أشكال التفكك الأسري الذي يترك آثارًا نفسية وسلوكية عميقة على الأبناء. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن نسبته في المجتمع الأردني تتجاوز 60%، إضافةً إلى حالات الطلاق الفعلي، مما يجعله اشكالية تستدعي البحث حول تأثيراته بعيدة المدى على الاسرة والمجتمع. ففي حالة الطلاق العاطفي، يستمر الوالدان في العيش معًا دون تواصل عاطفي أو حوار بنّاء، مما يخلق بيئة مشحونة بالتوتر والصمت والعقاب السلبي. هذه البيئة تؤثر بشكل مباشر على الأبناء، حيث تساهم في تشكيل سلوكيات عدوانية قد تتطور إلى العنف والتنمر، ليس فقط داخل الأسرة، بل تمتد إلى المدارس، الأماكن العامة، وحتى المؤسسات المجتمعية. لفهم هذه الظاهرة بشكل أعمق، من الضروري االقاء الضوء على النظريات العلمية التي تفسّر العلاقة بين الطلاق العاطفي والسلوك العدواني لدى الأبناء.
وفقًا لنظرية التعلم الاجتماعي التي طرحها ألبرت باندورا، يتعلم الأطفال والمراهقون السلوكيات من خلال الملاحظة والتقليد، خاصة داخل الأسرة. عندما يشهد الطفل علاقة زوجية يغيب عنها التفاهم، ويتخللها تجاهل أو توتر دائم او عنف جسدي، فإنه يتعلم أن الصراع يمكن أن يُحل بالتجاهل أو العدوانية بدلاً من الحوار والتفاهم. وبالتالي، يصبح العنف، سواء كان لفظيًا أو جسديًا، سلوكًا مقبولًا لديهم، وقد يبدأ الطفل في تبنّيه كوسيلة لحل النزاعات في حياته اليومية، سواء مع زملائه في المدرسة أو في الأماكن العامة.
تكشف الدراسات أن الأطفال الذين ينشأون في بيئة أسرية يغلب عليها الصراع العاطفي بين الوالدين يكونون أكثر عرضة لممارسة التنمر والعنف داخل المدارس. وتشير تحليلات لبيانات مُجمعة من عدة دول عربية إلى أن الأطفال الذين يعانون من التفكك العاطفي يسعون إلى تعويض نقص الاهتمام العاطفي بطرق أخرى، مثل فرض السيطرة على زملائهم أو جذب الانتباه من خلال سلوكيات عدوانية، كالتنمر. ومع مرور الوقت، قد تصبح هذه السلوكيات جزءًا من نمطهم الاجتماعي، مما يزيد من احتمالية استمرارها في مراحل لاحقة من حياتهم..
كما تُفسر نظرية الإحباط التي قدمها دولارد وآخرون العدوان من خلال العلاقة المباشرة بين الإحباط الناتج عن احتياجات غير مشبعة والعدوانية كرد فعل على هذا الإحباط. في حالة الطلاق العاطفي، يشعر الطفل أو المراهق بالإحباط بسبب غياب الدفء الأسري وعدم حصوله على الاهتمام العاطفي المطلوب من والديه. هذا الإحباط قد يظهر على شكل نوبات غضب، عنف جسدي ضد الأشقاء أو زملاء الدراسة، أو حتى سلوكيات عدوانية تجاه الممتلكات العامة.
البيئة الأسرية المفككة تُضعف أيضًا قدرة الطفل على تطوير مهارات التحكم في الغضب وحل النزاعات بطرق بنّاءة. فبدلًا من تعلم كيفية التعبير عن مشاعره بطريقة صحية، يلجأ الطفل إلى العنف كآلية دفاعية للتعامل مع مشاعر الإحباط. في الأماكن العامة، قد يُترجم ذلك إلى سلوكيات عدوانية مثل الاعتداء على الآخرين، تخريب الممتلكات، أو إثارة الفوضى في الأماكن المشتركة.
فيما تُشير دراسات اخرى إلى أن الأطفال الذين لا يحصلون على ارتباط عاطفي آمن مع والديهم يعانون من مشكلات في تكوين علاقات صحية مع الآخرين لاحقًا. في حالة الطلاق العاطفي، يكون التفاعل بين الطفل ووالديه مضطربًا، حيث يشعر الطفل بعدم الاستقرار العاطفي وعدم القدرة على التنبؤ بردود فعل والديه.
هذا النوع من التعلق غير الآمن يُترجم إلى صعوبات في التفاعل مع الأقران، حيث يُظهر الطفل سلوكيات عدوانية كآلية للدفاع عن نفسه أو كوسيلة للسيطرة على الآخرين لتعويض الشعور بعدم الأمان. حيث اثبتت الدراسات إلى أن الأطفال والمراهقين الذين يعانون من اضطرابات التعلق هم الأكثر عرضة ليصبحوا متنمرين أو ضحايا للتنمر في المدارس.
علاوة على ذلك، فإن هؤلاء الأطفال، عند بلوغهم سن المراهقة، قد يعانون من علاقات غير مستقرة، حيث يواجهون صعوبة في بناء الثقة مع الآخرين أو في الحفاظ على صداقات طويلة الأمد، مما يزيد من خطر العزلة الاجتماعية أو الانخراط في سلوكيات عدوانية في المؤسسات المجتمعية.
عندما يصبح العنف جزءًا من آليات التفاعل لدى الطفل، فإن تأثيره لا يقتصر فقط على الأسرة أو المدرسة، بل يمتد إلى المؤسسات المجتمعية الأخرى. حيث يزداد معدل المشاجرات والتنمر في المدارس، وتظهر سلوكيات التخريب والتحرش في الأماكن العامة. كما أن غياب الاستقرار العاطفي قد يؤثر على مستقبلهم، مما يزيد من احتمال تكرار نمط التفكك الأسري في الأجيال القادمة، ويؤدي إلى صعوبة بناء علاقات زوجية مستقرة.
وللحد من التأثيرات السلبية للطلاق العاطفي على الأطفال والمراهقين، لا بد من تبني استراتيجيات علاجية فعالة، تعزز استقرارهم النفسي والسلوكي. يتطلب ذلك دعمهم ببرامج إرشادية تساعدهم على التعبير عن مشاعرهم بشكل صحي، إلى جانب تعزيز التواصل الفعّال بين الوالدين والأبناء لضمان بيئة أكثر استقرارًا، حتى في ظل غياب العاطفة الزوجية. كما أن إدماج التوعية حول هذه الظاهرة في الاعلام والمراكز المجتمعية، يسهم في تمكين الأطفال والمراهقين من التعامل مع مشاعرهم بطرق إيجابية، مما يقلل من احتمالات لجوئهم إلى العنف أو التنمر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تطوير برامج وقائية علاجية موجهة للاطفال وفقًا لفئتهم العمرية، قائمة على ثقافة الاحترام والحوار، يُعدّ خطوة جوهرية في الحد من السلوكيات العدوانية وضمان بيئة أكثر أمانًا للأطفال والمراهقين.
الخاتمة
الطلاق العاطفي ليس مجرد مشكلة أسرية، بل هو تحدٍ مجتمعي ذو آثار عميقة تمتد إلى سلوك الأطفال والمراهقين، مؤثرةً على المدارس، الأماكن العامة، وحتى نسيج المجتمع بأسره. إن إدراك العلاقة الوثيقة بين التفكك العاطفي والسلوك العدواني يُمكّننا من تبني حلول واقعية للحد من العنف والتنمر، وتعزيز بيئة مجتمعية أكثر أمانًا. فحتى في ظل الخلافات، يظل الاستثمار في بناء تواصل صحي داخل الأسرة عاملاً حاسمًا في تنشئة جيل متزن نفسيًا واجتماعيًا، قادر على بناء مستقبل أكثر استقرارًا. إن مسؤولية حماية الأطفال من تداعيات الطلاق العاطفي لا تقع على الأسرة وحدها، بل هي واجب جماعي يستلزم وعيًا، وتكاتفًا مجتمعيًا، وسياسات داعمة لضمان بيئة صحية تُنمي جيلاً خالٍ من العنف والكراهية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-03-2025 10:26 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * |
![]() |
رمز التحقق : |
أكتب الرمز :
|
برأيك.. هل تتجه المواجهات بين قوات الأمن السورية و"فلول النظام السابق" في منطقة الساحل نحو تصعيد يمتد إلى مناطق أخرى؟
تصويت
النتيجة
|