16-03-2025 12:45 PM
بقلم : المحامية هبة ابو وردة
في أرجاء البلدان التي زُحفت تحت وطأة الحروب، حيث يعلو صدى الدمار وتتخلل ظلال الألم أركان الحياة، تبرز الحاجة الملحة لوقوف رؤساء المراحل الانتقالية كمنارات تنير الدروب الموحشة التي سار فيها المواطنون خلف آثار النزاعات، حيث إن مخلفات الحرب، بتلك الشظايا المتفجرة والألغام المتربصة، ليست مجرد بقايا من الأسلحة والمعدات، بل هي آثار مؤلمة لزمنٍ مرّ بفصوله السوداء، وتستدعي وقفة جدية لضمان عدم تحولها إلى مصدر تهديد حقيقي للأرواح والبنية التحتية عند تعامل الأفراد معها دون المعرفة أو التجهيزات اللازمة.
وبناءً على ذلك، تظهر أهمية فهم ماهية المخلفات الحربية التي تبقى بعد انتهاء النزاعات المسلحة؛ فهي بقايا المواد والمعدات العسكرية التي لم تُستخدم أو تنفجر خلال سيل الأحداث، حيث تشمل هذه المخلفات المتفجرات غير المنفجرة مثل القنابل والصواريخ والذخائر، والألغام الأرضية التي تُزرع في المناطق الحربية لتظل تهدد حياة المدنيين لسنوات طويلة، إضافة إلى بقايا المركبات والدبابات والمعدات الأخرى التي قد تحتوي على أجزاء أو مواد خطرة، فضلاً عن المواد الكيميائية والبيولوجية التي تترك آثارها الخطرة وتتطلب إجراءات خاصة للتعامل معها.
علاوة على ذلك، لا يخفى على أحد أن هذه المخلفات تشكل خطراً جسيماً؛ إذ قد تنفجر عند تعرضها لأي تدخل غير مدروس أو عند التعامل معها دون المعرفة الكافية أو التجهيزات المناسبة. وهذا يستدعي بذل جهود مكثفة لإزالتها وتنظيف المناطق المتأثرة.
وفي هذا السياق، تُعهد مهام التعامل مع هذه المخلفات إلى الجهات الرسمية المتخصصة والمنظمات الدولية المعتمدة؛ إذ تُعد وحدات الدفاع المدني والهيئات الأمنية والعسكرية، بما تمتلكه من خبرة وتجهيزات متطورة، الخط الأمامي للتصدي لهذه المخاطر.
كما تلعب المنظمات الدولية مثل وكالة الأمم المتحدة للألغام (UNMAS) والمنظمات المتخصصة دوراً حيوياً في إزالة الألغام وتفكيك المتفجرات غير المنفجرة، غالباً بالتنسيق مع السلطات المحلية، إلى جانب التعاون المثمر مع المنظمات غير الحكومية المتخصصة التي تقدم الدعم الفني والتدريبي وفقاً لمعايير السلامة الدولية.
وتظل النصوص القانونية والفنية بمثابة منارات هادية في بحر الفوضى الذي خلفته الحروب، إذ تناولت تلك الوثائق موضوع مخلفات الحرب وكيفية التعامل معها على المستويين الدولي والمحلي، لتكون بمثابة جسرٍ يربط بين الماضي المؤلم والحاضر الذي يسعى لإرساء مستقبلٍ أكثر أمانًا.
فمن أبرز هذه النصوص، اتفاقية أوتاوا لحظر الألغام الأرضية (1997)، التي تُعدّ من أعمدة الجهود الدولية للقضاء على الألغام الأرضية والحد من مخاطرها على حياة المدنيين، إذ تُلزِم الدول الموقعة باتخاذ إجراءات جادة لإزالة هذه الألغام ومنع استخدامها.
كما تواكبها البروتوكولات المرافقة لاتفاقية حظر بعض الأسلحة التقليدية (CCW)، التي تحتوي على نصوص تهدف إلى تقليل التأثير الإنساني للأسلحة التي تترك خلفها مخلفات خطيرة، منها المتفجرات غير المنفجرة، والتي تستمر في تهديد الأرواح حتى بعد زوال النزاع.
ولإرساء معايير التعامل الآمن مع بقايا الحرب، خرجت المعايير الدولية لإزالة الألغام (IMAS)، وهي مجموعة من الإرشادات الفنية التي تصدرها الهيئات الدولية المتخصصة، لتوفر إطارًا علميًا وإجرائيًا يضمن سلامة عمليات إزالة المتفجرات وبقايا الحرب، حفاظًا على الأرواح خلال عمليات التنظيف والإعمار.
كما لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه الدراسات والتقارير الصادرة عن منظمات دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) ووكالة الأمم المتحدة للألغام (UNMAS)، إذ تقدم هذه التقارير تحليلات دقيقة وإرشادات عملية حول تأثير مخلفات الحرب على المجتمعات المتضررة، مما يساهم في صياغة سياسات وإجراءات فعّالة للحد من تلك المخاطر وفقاً لمعايير السلامة الدولية.
إن أي تقصير في تطبيق هذه الآليات وغيرها لن يكون إلا بمثابة فتح الباب لإحياء مآسي حادثة انفجار حي الرمل الجنوبي بمدينة اللاذقية السورية؛ فقد أدت محاولة تفكيك صاروخ من مخلفات الحرب داخل منزل إلى انفجار مفاجئ، أودى بتدمير جزء من المباني وإصابة عدد من السكان.
وعليه إذا لم يُنظر إلى هذا الحدث كناقوس خطر يحذرنا من خطورة تلك البقايا القاتلة، ويؤكد على ضرورة اتخاذ استجابة عاجلة ومنظمة من الجهات الرسمية والمنظمات الدولية لتوفير الحماية والتوعية اللازمة، فضلاً عن تحديث الإجراءات الوقائية؛ فإننا معرضون لأن تصبح حوادث الدمار عودة محتومة تُعيد رسم معالم الفاجعة على مستقبل سوريا.
ولأن حكومات المراحل الانتقالية تظهر كأنوارٍ تشق طريقها عبر غياهب الليل، في سعي دائم لإزالة شظايا الحروب التي باتت ترسم على حاضر الأمم آثاراً أسطورية تُلقي بظلالها، فإن التاريخ يشهد على تجارب مؤلمة مشبهة؛ ففي العراق ما بعد العاصفة، تحولت مخلفات الصراع إلى أمواجٍ عاتية تهدد أمن الوطن، إذ لم تكن تلك البقايا مجرد تراكم للمتفجرات والألغام، بل كانت جرحاً مفتوحاً يُذكر يومياً بمرارة الماضي.
أما أفغانستان فقد برزت الحكومات الانتقالية كفنانين يرسمون مستقبلاً يبتعد عن ألوان الحرب الدامية، حيث كانت المخلفات أشبه بظلال متربصة بين الصخور والوديان، تستدعي شجاعة القادة لاستحضار القانون والنظام، وكأن إزالة الألغام إزالة طبقات من الطين عن نافذة تطل على شمس الحرية.
ولن ننسى ليبيا، فحين تصارع الفوضى والنظام، شكّلت المخلفات الحربية كأحجار عثرة تعيق مسيرة الانتقال نحو السلام، مما فرض على رئاسة الحكومة الانتقالية مسؤولية قانونية وأخلاقية لإعادة ترتيب فسيفساء الوطن، وتحويل الحطام إلى رموز للتحدي ودروسٍ للمستقبل.
تُظهر هذه التجارب أن إدارة مخلفات الحرب ليست مجرد عملية تقنية، بل مهمة سامية تتطلب تضافر السياسة والقانون والأخلاق، إذ إن كل خطوة تُتخذ لإزالة بقايا الدمار وكل إجراء يُطبق للحماية هو بمثابة إعادة كتابة قصة الوطن بمداد الأمل وبناء جدارٍ من القانون يحمي الأجيال القادمة.
واليوم يقف الشرع أمام تحدٍ جديد في هذه المرحلة الانتقالية؛ إذ يجب عليه تحويل مخلفات الحرب السورية إلى أساس لبناء مستقبل يسوده القانون والحق، كالنحّات الذي يُعيد تشكيل الرخام المتشظي باقتطاع شظايا الدمار واستثمارها في بناء صرحٍ من النظام والعدالة، معلنًا بداية فصلٍ يستعاد فيه الثقة وتزهر آمال المواطن السوري.
ومن منظور الأمن الوطني والتزام التشريعات الوطنية السورية بالنصوص القانونية الدولية، تُعد إزالة مخلفات الحرب خطوة أساسية لمنع تكرار المآسي؛ حيث تُلزِم القوانين الدول بوضع سياسات وبرامج لإزالة تلك البقايا وتأمين بيئة آمنة للمواطنين.
ولضمان تحقيق ذلك، يُستحسن توفير ورش عمل وحملات توعوية لتعريف الشعب السوري بمخاطر التعامل مع بقايا الحروب، ودعم برامج إزالة الألغام بالتنسيق مع المنظمات الدولية والإنسانية، واستثمار جهود الإعمار في إعادة تأهيل المناطق المتضررة.
إن هذا النهج يُعد درساً لا بد منه للأسرع في مواجهة التحديات، ليضمن أن يعكس مستقبل سوريا قيم الحق والعدالة، ويثبت أركان الأمن والاستقرار للأجيال القادمة.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
16-03-2025 12:45 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |