حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,23 مارس, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 3200

سامي القاضي يكتب: "الكرامة .. حين يُكتب التاريخ بالدم والرصاص"

سامي القاضي يكتب: "الكرامة .. حين يُكتب التاريخ بالدم والرصاص"

سامي القاضي يكتب: "الكرامة ..  حين يُكتب التاريخ بالدم والرصاص"

20-03-2025 11:39 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم :

سامي القاضي

 

"أشدّ الحالات إيلامًا أن تباغت الموت، ولا تنجو منه. أن يعصاك القدر، فيتركك حيًا بين الجثث، يُلقي بك فوق رماد الحبيب المشتعل، ويمنحك النصر فقط ليمضغك الفقدان."

 


هكذا بدأتُ الكتابة، لا بحثًا عن مجدٍ أدبي، ولا انتظارًا لصفحات نقدٍ تتناول سطورًا خطّها قلمي، بدأتُها كأنني أدوّن وصيتي، أودع روحي على الورق، وأتركها شاهدةً على حكايةٍ لم يكتبها أحد، إلا الذين عبروا طريق النيران ولم يعودوا، كانت الحربُ تحاصرني، والذاكرة تأسرني، فلم يكن أمامي سوى القلم، وسوى الكلمات التي تسقط كالرصاص، واحدةً تلو الأخرى.

 


21 آذار، ذكرى الكرامة، لم تكن يومًا مجرد تاريخٍ على الروزنامة، كانت شهادة ميلاد جديدة لوطن، صرخةً أطلقها الجنود في وجه الموت، فكانت أقوى من كل المدافع.

 


أكتبُ اليوم، كما كنتُ أكتب في الخندق، تحت أزيز الرصاص، بين دخان المعركة وصيحات الأبطال الذين حفروا أسماءهم في الأرض، فأزهرت دماؤهم نصرًا خالدًا. كُنتُ هناك، وكنتُ أراهم، مسلم، إبراهيم، وخضر شكري، فاضل علي، محمد هويمل، محمود أبو وندي، محمد طلب.. أسماءٌ لم تكن مجرد حروف، بل كانوا عاصفةً اجتاحت العدو وألقت به في وحل الهزيمة.

 


في قلب المعركة.. حيث يصرخ الجسد قبل الروح

 

لم يكن الأمر مجرد رواية، كان سيرةً ممزوجة بالبارود، تفاصيل ترقد تحت التراب، صرخات لم تُسمع، ونظرات أخيرة أطلقها رجالٌ صوب السماء، قبل أن تحتضنهم الأرض، عندما كتبتُ، لم أكن أجلس في مكتبٍ تحت ضوء مصباح، كنت في خندق، يعلو فوقي هدير الطائرات، كانت كلماتي تُكتب تحت ضوء صاروخٍ يتفجر، والحبر كان يمتزج برائحة الدخان.

 


كان فاضل علي ممددًا على الأرض، عيناه ما زالتا تتوقدان كأنما يحتضن النصر بين رموشه، لكن أمعاءه كانت خارجةً من بطنه.. مشهدٌ لا يمكن لعقلٍ بشريٍّ أن يتحمله، لكنه نظر إليّ، وقال بصوته الذي لم تهزمه الجراح:

 


"ليس مزعجًا إلى الحد الذي تتصوره.. فالنصر وحده هو أفضل علاج.. سحقًا للعدو.. لكن أمعائي أنهت مهمتي في الحرب!"

 


كيف يمكن للجسد أن يبقى حيًا وهو ممزق، كيف يستطيع الرجل أن يبتسم وهو يحتضر هنا، في الكرامة، كان الألم أقلّ قسوةً من الخذلان، والموت أقل وجعًا من الهزيمة.

 


حين تغني الدبابات.. إلى طبريا ودير ياسين

 


"صرخنا جميعًا: الله أكبر.. وبدأنا بالعودة تدريجيًا، وبأقصى سرعة نحو العدو. دبابتنا صارت كأنها الريح العاتية، لم أرَ دبابةً تسير بهذه السرعة المجنونة، والمدفعي فيلسوف يردد: إلى الرامة، إلى النصر."

 


في قلب الدبابة، كنا نحاول أن نمسك الحياة بأيدينا، لكن الموت كان أسرع، كانت القذائف تتساقط خلفنا كالمطر، لكن محمد طلب كان يقود بجنونٍ لم أره من قبل، يضحك ويغني عبر الجهاز:

 


"اليوم يومنا.. اليوم يوم دبابة الحسين.. إلى طبريا ودير ياسين!"

 


كان الموت يركض خلفنا، لكننا كنا أسرع، كنا نهرب منه إلى الحياة، نهرب منه إلى النصر.

 


أما محمد هويمل، فقد ظل يقاتل حتى الرمق الأخير، لم يكن يؤمن بالانسحاب، كان يرى أن الشهادة هي الخيار الوحيد، وحين أصابت دبابته القذيفة الأخيرة، هتف عبر الجهاز:

 


"أنطقوا الشهادة كما أحبها القائد محمد هويمل ونالها"


فعلنا، لم يكن أمامنا إلا أن نصرخ بها، أن نترك أصواتنا تملأ السماء، كما ملأتها أرواح من سبقونا.


بين الكرامة والفقدان.. معركةٌ لا تنتهي

 


الكرامة لم تكن مجرد معركةٍ عسكرية، كانت اختبارًا لجوهرنا، لتاريخنا، وللألم الذي يحمل كل جنديٍ بين أضلعه. ما زلتُ أذكر وجوه رفاقي، كيف نظروا إليّ عندما سقطتُ، كيف رأيتُهم يرحلون، وكيف بقيتُ وحدي، مع كلماتٍ تائهةٍ في العراء.

 


انتهيتُ من الرواية بعد سبع سنوات، وضعتُ فيها كل ما عشته، كل ما لم أقله، كل ما حاولتُ نسيانه وفشلت. لكنها بقيت هناك، مجرد أوراقٍ عتيقة، على رفٍّ باردٍ لا يسمع الصدى الذي يملؤها. لم أجنِ منها شيئًا، إلا أنها جنت مني الكثير.. تركتني أكثر تعبًا، أكثر وحدةً، وأكثر يقينًا بأن الكتابة لا تنقذنا، بل تُبقي جراحنا مفتوحةً للأبد.

 


لكنني كتبتُ، لأن الكتابة كانت معركتي الأخيرة.

 


وما زال صدى صيحاتهم يتردد حتى اليوم: الله أكبر.. الكرامة لنا، والنصر لنا، والحياة لمن يستحقها.

 

 

 








طباعة
  • المشاهدات: 3200
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
20-03-2025 11:39 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل توسع واشنطن نطاق ضرباتها على الحوثيين لتشمل استهداف مواقع إيرانية بشكل مباشر؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم