23-03-2025 09:18 AM
سرايا - في زمن يهيمن عليه الموت والقتل والخراب، ويذبح به أهلنا وأبناؤنا على مرأى من العالم المسخ الشرير الأصم، تحضر القصيدة بوصفها محورا من محاور المقاومة، ولتكون رصاصة منافحة تقف في وجه الظلم، وتشق صدر الطغيان، تبوح بمكنونات الذات، تصور اغترابها وانكسارها، وتنسج بوحها ورؤاها وأحلامها وتصوراتها، وتعلن الصرخة الموجعة علها توقظ الإنسانية الغارقة في سرداب التيه والضلال، تستنهض الجموع، وتبعث الحياة في جسد الأحرار كلما أنهكهم الواقع بما به من تشوه واستلاب وطغيان.
وحين نتحدث عن فلسطين، فالشعر ينافخ من أجل تثبيت الهويّة والانتماء، وشحذ وتعميق الوجدان الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ، لإبقاء الرّوح الفلسطينيّة حيّة، رغم التشظّي والاغتراب الّذي أصاب روح الفلسطيني وأرضه وتاريخه وواقعه. فالقصيدة الحرة سيدة المقاومة، وبوق الحق في وجه الاحتلال والطغيان.
ولطالما كانت الكلمة خالدة باقية لا تطالها يد الموت، وثورة متمردة في وجه الاستبداد والظلام، تقوّم اختلال ميزان العدالة، تتتبع صور القبح والجمال، تلمّ التفاصيل في قلادة القصيدة، تتبع حركة الظلّ والضوء، تمزج بين الواقع والمتخيل، تلوذ إلى البلاغة والصور المتشابكة متقنة النسج، تنهل من مكنون الوجع حينا، وإلى البساطة المتعذرة حينا آخر انحيازا للإنسان والمكان، ولأوطان تستحق الفداء والتضحية. فالوطن هو الذاكرة والرحم الأول، هو الطفولة، والحلم في أنقى تجلياته، والأفق الرحب حين يشتدّ الاشتياق والحنين، إذ تقسو الحياة بخشونتها وتقلباتها، ويتوحش العالم الظالم فيصير غولا نهما يدوس بقدمه الحقّ، في عالم هيمنت عليه المادة، وانزوت القيم بعيدا، في زمن ينتشي به الإنسان بدم أخيه الإنسان.
ومن هنا تأتي تجربة سعيد يعقوب الشعرية متخلّقة من رحم المعاناة الجماعية التي تندغم بها الذات الشاعرة، لتشي بشاعر متقن متملك لأدواته الفنية، متملك لموهبة نفيسة ثريّة، ينتصر إلى قضية شعبه، ينسج قصيدة المقاومة، يغنّي لقنطرة الشهداء، ورحلة العبور الخالدة إلى النور. يستنهض الهمم، ويرتدي الهويّة عباءة ويكسوها انتماء، ضمن بناء فنيّ متماسك، وتشكيل وجدانيّ يكسوه الحنين والاشتياق، ترقّ به الروح حينا، إذ تتجلّى الأم والحبيبة، وإذ يحضر الوطن الملاذ، ثم يتصاعد الإيقاع قوة وخشونة، وتحتقن الروح بالألم حين يحضر الظلم، ويتجلّى الدمار والموت، وتتبدّى صور العدوّ بقبحه وهمجيته وحقده، وإذ تمتلئ الأمكنة بالخيبة والخيانة والخذلان حينا آخر.
يشكّل سعيد يعقوب تجربة شعريّة غنيّة تستحقّ الدّراسة والاهتمام، يجدّد دون أن يخذل القديم، يعتني ببناء القصيدة، وينفث فيها من روحه فيبعث بها الجمر فينسلّ إليها نسغ الحياة. والشاعر الفنان لا يعنى بالمضامين على حساب الفنّ، بل يعتني بالجملة الشعريّة إنشائيّة أو خبريّة، يعنى بتشكيل الصورة الفنيّة الشعريّة، ويمزج بين الواقع والخيال، وبتراسل الحواس، واللغة العاليّة، ويتناغم إيقاعه الموسيقى مع المضامين على اختلافها، دون أن يغرق قي دائرة الغموض والتعقيد التي قد تفقد قصيدة المقاومة مهمتها بالوصول إلى الجمهور على اختلاف شرائحه وتشكيله الثقافي، فلا تطلّ قصيدة سعيد يعقوب على الجمهور من أبراج نائية عالية، فالشعر الملتزم يحمل قضية ورسالة لا تتحقّق دون الوصول إلى المتلقي المستهدف لتؤثّر فيه.
ويأتي ديوان» كَرّة خاسرة» ليكون استكمالا لمشروع شعريّ فنيّ ثريّ تبناه الشاعر، ورأى به طريقا ومرادا، واستكمالا لرسالة والتزام تجاه الوطن والقضيّة، وتعبيرا عن تصوّر لوظيفة الشعر ومبتغاه ؛ وتقوم هذه التجربة الإبداعيّة الشعريّة على الصبر والتجويد والتنقيح والمكابدة حتى تستوي القصيدة على عرشها بكامل فتنتها وإغوائها متّخذة من ثوب القصيدة التقليدية العموديّة المقفّاة بوتقة لمقولاتها الشعرية الراشحة بأيديولوجيا دينية وفكرية تتناغم مع مضامين القصائد دون أن تبدو فجّة ناتئة، ولتعبّر عن موقف أبناء الأرض الذين يرون في قضية فلسطين العادلة بوصلة للمبتغى والطريق.
صدر للشاعر أكثر من ثلاثين ديوانا من مثل: «هواجس على حافة اليقين»، و»عبير الشهداء»، و «مقدسيات»، و»غزّة تنتصر» إثر العدوان على غزة عام 2014 وبعد معركة طوفان الأقصى مناصرة لأهلها وقضيتهم العادلة واستنهاضا للهمم النائمة صدر له: ديوان «من مسافة صفر» بما يطل من عنوانه من إشارات واضحة إلى ذات المعركة، و»للحديث بقيّة» وغيرها كثير.
وقد خاض الشاعر في منجزه الشعريّ الإبداعيّ تجربة إبداعية جديدة تقوم على إصدار دواوين مشتركة لمناصرة فلسطين وأهلنا في غزة صحبة معالي الدكتور الشاعر صلاح جرّار ضمن ثنائية لافتة يجمعها الإيمان بالقضية والمقاومة، واتّخاذ القصيدة طريقا للخلاص والكفاح، ومناصرة النضال والتضحيات، وتقديم حكاياتهم وأوجاعهم للعالم للتأثير على الرأي العام الذي ينظر من زاوية ضيّقة عنصريّة أحاديّة، وبمشاركة ثلّة متميّزة من الشعراء الأردنيين والعرب لتمتزج صرخة الذات بأصوات الآخرين، إذ يصير الوجع واحدا، والقضية واحدة، ويتناغم الخاص مع العام، وتزدهي القصيدة المقاومة بأثواب متعدّدة، وإيقاعات متنوّعة لأقلام وتجارب مختلفة، في تجربة فنيّة ملتزمة فريدة. فيعلو صوت سعيد يعقوب وقصائده التي يَسِمُها بنبضه وأسلوبه الخاص، في دواوين مشتركة من مثل: «رباعيّات جنين»، و»طوفان الأقصى»، و»ضربة القرن»، و»سلام على الشهداء».
ويعد شاعرنا والدكتور صلاح جرّار العدة اليوم احتفاء بتوقف الحرب الغاشمة على غزة لإصدار ديوان مشترك جديد يحمل عنوانا مهمّا يحتفي بانتصار المقاومة في غزّة ولا شك لديّ بأنه سيكون منجزا إبداعيّا جديدا متميّزا يستكمل الدواوين السّابقة الحاملة لنفس الهمّ والقضيّة، والمؤرّخة لأحداث غزّة وفلسطين ومناصرتها، فتنضاف ماسة جديدة إلى قلادة الدرّ النفيس التي ينظمها الشاعر سعيد يعقوب.
يمتح الشاعر سعيد يعقوب في دواوينه من مرجعيات ثقافيّة ودينيّة ولغويّة متعدّدة أسهمت في تشكيل لغته الطازجة، وفي بناء قصيدته فنيّا ومضمونيّا دون أن نستشعر عناء الصنعة والتكلّف بل نجد في غزارة إنتاجه وطول قصيدته وتدفّقها، دون أن تشوبها الركاكة والضعف، وكأنّه يغرف من بحر. فالقصيدة عنده قطعة فسيفساء نفيسة تتناص مع كلّ ما تحفظه ذاكرة الشاعر، من مخزونه اللغويّ والفنيّ والثقافيّ، دون أن يبدو في القصيدة نتوءات نافرة، فكلّ شيء متقن في تمازجه ونسبه وسبكه، يضاف إليه صدق العاطفة، والإيمان العميق بقضيّة الشاعر وشعبه، ورؤيته إزاء الذات والآخر والجماعة، بل والعالم في مداه الإنساني الرحيب. فالشعرية عند سعيد يعقوب تطلّ من تصوّر يرى في الصورة الشعريّة رافدة للرؤية والمبتغى، ووسيلة لتطيل أمد القصيدة لتمنح النصّ بقاءه وخلوده، وطريقه لتحقيق رسالته العادلة.
يبدأ ديوان «كَرّة خاسرة» بقصيدة وجدانية مؤثّرة يرثي بها والدته الشجرة العتيقة التي تشبه الأرض والوطن، بل هي الأم فلسطين، تحمل روحها ونبضها، ورائحة ليمونها وبرتقالها، وصوت حكاياتها، وتخبئ في جيبها مفتاح دارها التي انتزعتها يد الصهيونية الغاشمة، وصفّق لطغيانها العالم الرأسماليّ الظالم.
وتفيض القصيدة بالأسئلة الوجوديّة والبكاء والتفجّع على مصير الإنسان المأساوي الذي يترصد به المتمثل بالفراق والموت. وقد حظيت الأمّ بإهداء الديوان لتكون عتبته الإنسانيّة والنصيّة الحيّة التي تجعل من الديوان لوحة فنيّة صادقة النبض وعصيّة على الفناء أو التكلّف.
ثم يحدثنا عن دور الشعر ورسالته ومهمته في قصيدة حملت عنوان «دوْر الشّعر» ثم يورد مقطوعة معنونة «بالإرهاب» وهو مصطلح يورده العدوُّ ليتهم كلّ صرخة حقّ مقاومة به، بينما يجعله الشاعر متمثلا ببني صهيون في حقيقته لنقبض على أضلاع المثلث التي يقوم عليها الديوان: الوطن، والشهداء، والإرهاب الذي يمثله عدو غاشم قبيح.
ثم يطرح شاعرنا تساؤلا كبيرا قديما جديدا لا يجاوبه إلا الصدى، فتحضر الصرخة من رحم الوجع عالية بلاحد في قصيدة « أين العرب» وإذ يشتد الذبح والطغيان، ويهيمن الصمت والعجز يلوذ الشاعر إلى خالقه بالدعاء بعد أن سُدّت كلّ أبواب الأرض، بوصفه الأمل المبتغى لتغيير الحال بقصيدة « ربّ انتقم» ثمّ يلوذ إلى قصيدة العتاب مستنكرا ممارسة الفرح، والغرق في رتم الحياة الاعتياديّ، بينما تتعملق يد الشرّ ويقتل أهلنا في غزّة، ويفيض الدم من مسامات الرمل، و يختلط بملوحة البحر، ليسجل الحقيقة المرّة في قصيدة لاحقة تحمل اسم « نغفو على مذلتنا».
وتأتي قصيدة «كَرّة خاسرة» التي عنون الديوان بها لتدين تلك الفئة الضّالة التي لا تحمل موقفا واضحا رغم قماءة كلّ ما يحدث متنصّلين من الموقف الحقّ المستنير، إذ تشتدّ الخطوب متدثّرين بالجبن والقبح وعجز البصيرة. ثم يحلّق بنا سعيد يعقوب هنا وهناك ليدِين الواقع ويسجّل صوره ومشهدياته، فيتحدّث عن سقوط الحضارة، ثم ينسج مشهديّة قبيحة لنتنياهو إذ يطلّ على المنصة يكذب ويتبجّح أمام الكونجرس الأمريكيّ لتعلو صور النفاق والزّيف، وتنحسر الأخلاق والقيم ضمن لوحة متهكمة ساخرة تحاضر بها مومس حول الطهارة. وتلتقي بها عناصر الزمان والمكان، والحركة، والضوء والظلّ لنقف على مشهد سرديّ دراميّ بارع داخل إيقاع الشعر. ثم يذهب بنا إلى قصيدة تدين عنصريّة أمريكا ودعمها للصهيونيّة كما يطلّ من عتبة العنوان التي تشي بالمضمون. وتحضر في القصيدة التناصّات الدينيّة كقصة فرعون وهامان، وتصير الجملة الشعريّة ناطقة بالحكمة والنبوءة التي تقرأ المستقبل من وحي الماضي وتجلّياته في الواقع، فالعلاقة بين الماضي والحاضر علاقة تصادميّة، فلولا هزائم الماضي وانكساراته لما كان الواقع بهذا الانحطاط والانكسار والتّراجع.
ثم يأخذنا الشاعر في «كَرّة خاسرة « إلى ضلع المثلث الآخر؛ فتحضر قصائد الفداء والشهداء ضمن تزامن واقعيّ مع أحداث محرّضة تجري على أرض الواقع، فمن وقائع الطعن الذي اتخذه الفلسطينيّ ليكون وسيلة من وسائل الفداء والتضحية، إلى تقريب الكاميرا الشعريّة لنقبض على صورة جنديّ صهيونيّ جبان يَسِمُه النصّ الشعريّ بأقبح الصّفات، ويصوّره بالفأر والأرنب المذعور. ثم لتحضر قصيدة طويلة تعلن عن رؤية الشاعر وموقفه، ويدين من خلالها الأمّة المتخاذلة، بينما تذبح فلسطين القابضة على الجمر. فتحضر صور القتل والاغتصاب والحرق وقطع الأشجار وتدمير الحقول، فتغيب كلّ الأصوات، ويعلو صوت المقاومة.
يرثي الشهيد البطل إسماعيل هنيّة بعد أن أطلق عليه لقب أبي الشهداء، ضمن صورة حزينة مفزعة احتشدت وتواطأت بها الأفاعي عليه من نسْلَي سام وحام. ثم يتبعها بقصيدة أخرى تصير بها البطولة أسطورة، والتضحية والحريّة والإباء مجدا يخلّده ويخلّد قضيته في العالمين، في قصيدة حملت اسم «السّنوار». ثمّ يورد مقطوعة يتصدّرها الشهيد الأردنيّ ماهر الجازي حويطات لتتسع التضحية، وتلتقي في قلب واحد يهتف بأوجاعه أبناء الضفتين.
ولا ينسى الشاعر في ديوانه دور المرأة المضحّية ضمن رؤية ترى في المرأة وطنا، وفي الوطن امرأة وحبيبة وأُمّا، فيفرد قصيدة لنساء غزّة أمهات الشهداء والشهيدات. ولا تغفل القصائد المستقاة من تفاصيل الواقع وحرب غزة أن تسجل صورا نابضة لكلّ شرائح التضحية والبطولة فيكتب قصيدة «أيها الغزيّ» مهداة للدكتور حسام أبو صفية بطل مستشفى الشفاء المُواجِهِ الواثق الثابت أمام دبابات الاحتلال العالق المعذّب في سجونه، ليشي بقبح الاحتلال وانتهاكه لكلّ القوانين والقيم الإنسانيّة. ولا ينسى الشاعر أن يؤرّخ للنور والأمل فرغم هيمنة قوى الشرّ والخراب والقبح والظلم لابدّ من يوم يشفى به غلّ الصّدور في حضرة صُوَر البطولة في غزّة وصمودها رغم تكاتف قوى العالم الذي يدّعي الحضارة عليها، ضمن صورة فجائعيّة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ثمّ ليختم ديوانه بتحيّة لأهل غزّة الذين لم ينحنوا رغم ضراوة العاصفة الهوجاء فالمجد للشّهداء.
وبعد، إنّ المبدع الذي يتّخذ من الكتابة وسيلته المتحضرة للتغيير والبناء للانعتاق من أسر ما يعانيه و نعانيه، يفتّش بها عن الخلاص، ويلوذ إليها من لوعة الاغتراب والتشظّي الذي يصنعه الوعي والاختلاف، يؤرخ للجمال والقيم النبيلة الرفيعة منافحاً عن الحقّ، ناشراً للحبّ والخير، وتمْتَح نصوصه من مخاض الألم والمعاناة للتعبير عن الذات والمجتمع والعالم بمداه الإنسانيّ الرحيب، يتغذّى على الحريّة ومن أجلها يناضل، وبها يكون هو المبدع الخالد بنصّه الإبداعيّ الذي لا يموت.
*شاغل كرسي عرار للدراسات، أستاذة الأدب الحديث، جامعة اليرموك
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-03-2025 09:18 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |