20-04-2025 10:26 AM
بقلم : د.عبدالله سرور الزعبي
في هذا الجزء من المقال سنتحدث عن التنافس الدولي لتأمين مصادر مستدامة للمعادن النادرة والإستراتيجية والتي أصبحت في غاية الأهمية للصناعات التكنولوجية كنتاج للثورة الصناعية الرابعة، ولضمان الهيمنة الجيواستراتيجية.
سبق ان تحدث سميث، عن القوى العالمية المسؤولة عن تشكيل مستقبل العالم (قوة الديموغرافيا والموارد الطبيعية والعولمة (يمكن لنا القول اليوم بان العولمة تمر اليوم بأزمة عميقة، وهل سينجح الرئيس الأمريكي بإعادة هندستها بطريقته) والتغييرات المناخية، ونضيف اليها قوة التكنولوجيا التي تربط القوى الاربع وغيرها من القوى الثانوية.
من حديث سميث نجد ان الموارد الطبيعية، تعتبر القوة الثانية في تشكيل مستقبل العالم، ففي القرن الماضي، كانت السيطرة لموارد الطاقة الاحفورية، وعلى الرغم من أهميتها، الا ان القرن الحالي شهد تحولاً كبيراً في الاهتمام بالموارد لمواكبة احتياجات الثورة الصناعية الرابعة، مما سرع من الحاجة للمعادن النادرة والاستراتيجية لوقوعها في قلب التحول التقني. الامر الذي أحدث تغيراً في شكل الصراع لازدياد الطلب المتسارع عليها (يعاني العالم من نقص في مواردها يصل الى 50 %) مما يجعلها من القضايا المفصلية في السياسة العالمية والتهديد بالحصول عليها أصبح سمة من سمات العصر الحديث.
إن الصراع على المعادن النادرة، لم يعد مجرد معركة اقتصادية، بل أصبح صراعاً مفتوحاً بين كل من أميركا والصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها للفوز بالنفوذ والسيطرة عليها في عالم يتجه نحو استخدامات مفتوحة للصناعات المتطورة والتي لا يمكن انتاجها بدونها.
انطلقت الدول الكبرى في صراعها، من منطلق ان السيادة ستكون لمن يستطيع ان يدافع عنها ويتوسع فيها، حيث وصلت الصين في نهاية القرن الماضي للقناعة بان العالم لا يعترف بالضعيف ولن يكون له مقعد على طاولة توزيع النفوذ)، وكانت على يقين، بانها لا تستطيع منافسة أميركا وروسيا بالصناعات العسكرية، فوجدت ضالتها بالتركيز على النمو الاقتصادي (مستفيدة من الاتفاقيات الدولية وقوتها الديموغرافية، ومهارة الايدي العاملة لديها)، فاتخذت الكثير من الإجراءات التنفيذية لتحقيق استراتيجيتها الجديدة.
الصين، استغلت انشغال أميركا في حروبها المختلفة في الشرق الأوسط وأفغانستان الحالي وغيرها من الامور، وسارعت لتنفيذ خطتها الاستراتيجية في التوسع في النفوذ في افريقيا، مستغلة ايضاً تراجع الدور الفرنسي والروسي (بعد تفكك الاتحاد السوفيتي) والامريكي وقدرت ثروات الدول الافريقية بشكل جيد، واعتمدت أسلوب التدخل الناعم عن طريق الاستثمار، إلى أن وصل حجم استثماراتها الخارجية والمباشرة (في دول افريقيا وشرق آسيا وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينية والعربية والأوروبية) منذ بداية القرن الحالي أكثر من 3 تريليون دولار أميركي، مما يجعلها في المرتبة الثانية عالمياً.
الصين، قدرت التفوق التكنولوجي الأميركي، فبحثت عن آلية للسيطرة على مصادر المدخلات التكنولوجية، وطورت تكنولوجيا للتعدين (لا يوجد لها مثيل حتى الان)، مكنتها من استخلاص عدد من المعادن النادرة المتوفرة في أراضيها، لتصبح الدولة الرائدة في هذا المجال.
في القارة الافريقية، تفوقت الصين، فاستثمرت فيها حوالي 180 مليار دولار (منها 42.1 مليار استثمارات مباشرة) وقدمت قروض وتمويلات تنموية لدولها (منذ بداية القرن) بقيمة تزيد عن 170 مليار دولار، ونفذت مشروعات تعاقدية فيها بقيمة تجاوزت 700 مليار دولار في قطاعات مختلفة ومنها التعدين، كما وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما (2023) الى 282 مليار دولار.
كما ركزت الصين على استخراج المعادن الافريقية، وخاصة الاستراتيجية والنادرة منها، ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية، تمتلك الصين حوالي 72 % من مناجم الكوبالت والنحاس، وفي زامبيا، التي هي جزء من حزام النحاس الافريقي، وزيمبابوي، صاحبة أكبر احتياطيات في الليثيوم في أفريقيا (انشئت الصين مصنعاً بـ300 مليون دولار لمعالجة الليثيوم)، وغينيا التي تتعاون مع الصين لتطوير أكبر مستودع لخام الحديد عالي الجودة، وناميبيا التي تستغل فيها الليثيوم، والغابون تعمل على تطوير منجم الحديد (باستثمار 3.5 مليار دولار يشمل البنية التحتية)، وفي الجزائر تستثمر 6 مليار دولار في خامات الفوسفات وغيرها، وفي السودان ومالي تعمل على استغلال الذهب وغيرها من الدول لاستخراج المعادن النادرة. ان مثل هذه الاستثمارات الصينية أحدثت خللاً في التوازنات الجيوسياسية مع أميركا ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا في القارة الافريقية لصالح الصين.
في دول آسيا الوسطى (كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، أوزبكستان)، شهدت الاستثمارات الصينية نمواً ملحوظاً (حجم الاستثمارات الصينية المباشرة بلغت 15 مليار دولار) تركزت في الطاقة والبنية التحتية ونقل التكنولوجيا والتعدين، ووصل حجم التبادل التجاري مع دول آسيا الوسطى إلى 70.2 مليار دولار (2023). ان حجم الاستثمارات الصينية في دول اسيا الوسطي أحدث خللاً في النفوذ والتوازن الجيوسياسي مع روسيا لصالح الصين.
بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، سارعت الصين للاستثمار فيها، في قطاعي النفط والتعدين، لتعزيز نفوذها الاقتصادي والاستفادة من الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها أفغانستان، الا انها استغلت فشل روسيا وأميركا فيها.
فيما يتعلق بالعالم العربي، بلغت الاستثمارات الصينية حوالي 213.9 مليار دولار في الفترة 2005-2022، (بعضها في قطاع تعدين المعادن). ان مثل هذه الاستثمارات في الدول العربية جاءت على حساب حصص كل من أميركا والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا وغيرها من الدول ولصالح الصين.
في دول أميركا اللاتينية، بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة حوالي 46 مليار دولار خلال الفترة من 2000 إلى 2023، في قطاعات التعدين والطاقة والبنية التحتية (وفقًا لتقرير صادر عن معهد C3S، في أميركا اللاتينية). ان الاستثمارات التعدينية كانت في منطقة مثلث الليثيوم (الأرجنتين، بقيمة 790 مليون دولار لإنتاج 20,000 طن، بوليفيا، بقيمة 1.4 مليار، تشيلي، تمتلك الصين 24% في شركة انتاج الليثيوم). كما وتنتج حوالي 450 ألف طن نحاس من بيرو، وتستثمر 1.4 مليار في الاكوادور لنفس الغاية، يضاف اليها البرازيل لإنتاج الحديد والليثيوم. ان هذه الاستثمارات في أميركا اللاتينية تعكس استراتيجية طويلة الأمد لتأمين الموارد الحيوية وتأتي على حساب النفوذ الأمريكي والروسي والاتحاد الأوروبي (لصالح الصين).
الصين، تسعى للاستثمار في دول الاتحاد الأوروبي، رغم التحديات والقيود التي تواجهها والتوترات الجيوسياسية مع دول الاتحاد، الا انها نجحت في استثمار 15 مليار دولار في دول مثل المجر وصربيا، وانشاء مصانع لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية في دول مثل ألمانيا والمجر وفرنسا ومصنع الصلب في بريطانيا (قامت بريطانيا بتأميمه الأسبوع الماضي).
الصين، أصبحت الاعب الرئيسي في مشهد الاستثمار العالمي في قطاع التعدين (تنتج أكثر من 70 % من المعادن النادرة، وتُسيطر على أكثر من 85 % من قدرات التكرير العالمية لها (تقدّر استثماراتها في استخراج وتكرير المعادن النادرة بأكثر من 15 مليار دولار سنوياً)، وهي تحقق استراتيجية ناجحة في تأمين سلاسل الامداد للمعادن الضرورية لصناعاتها وغيرها من الموارد وفتح أسواق جديدة جعل منها لاعباً رئيسياً في الاقتصاد العالمي وعزز من نفوذها الجيوسياسي (بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق ووصلت بشراكاتها الاقتصادية والجيوسياسية مع 149 دولة و30 منظمة دولية، مما وسع من نفوذها)، محدثة خللاً في تحقيق التوازن لبعض الدول بين جذب الاستثمارات الصينية وحماية مصالحها الوطنية.
وعلى الرغم من المنافسة العالمية، فان الصين لديها فرصة السيطرة على الأسواق العالمية بفضل قدرتها الإنتاجية وبنيتها التحتية والروابط التجارية مع الدول الغنية بالموارد، الا انها تواجه مشكلة في تراجع جودة الخام لديها، والضغوط الامريكية المتصاعدة لإضعاف هيمنتها.
ان كافة المؤشرات تدل على ان الصين ستبقى على المدى القريب (2030) صاحبة اليد العليا في قطاع تعدين المعادن الاستراتيجية والنادرة، بفضل تفوقها في تكنولوجيا التكرير والتفوق الإنتاجي، وهي تسعى لتحقيق استراتيجية التحكم بالتصدير وسلاسل الامداد طويلة الأمد، فهل يتحقق لها ذلك للعقود قادمة؟
في الجزء الخامس، نستكمل الحديث عن خطط الولايات المتحدة وغيرها من الدول في تامين مصادر مستدامة للمعادن الاستراتيجية والنادرة.
*مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
الغد
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
20-04-2025 10:26 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |